تتميز المجتمعات الصناعية بالدأب والمثابرة واحترام الوقت والحرص على التفوق، ويبدو هذا واضحاً في مجتمعات مثل المجتمع الألماني والياباني والكوري الجنوبي ويعد الأخير مفخرة للبلدان النامية بسبب الروح التنافسية التي بذلها ذلك المجتمع لتقليص الهوة مع العالم المتقدم وليحتل مكانه المستحق على مدارج الحضارة العالمية. لقد أدركت هذه الشعوب أن سر التفوق الاقتصادي يكمن في توطين الصناعة والتقنية، فرحل الألمان لجلب أسرار الثورة الصناعية من إنجلترا وتبعهم اليابانيون فنهلوا من أسرار التقنية الإنجليزية والألمانية معاً ثم جاء الكوريون في أواخر القرن العشرين ليسيروا على نفس الدرب ويقتفوا الأثر الألماني والياباني وليثبتوا أن التقدم الصناعي ليس محتكراً وأن الذكي هو من يستفيد من التراكم المعرفي للشعوب ولا يبدأ من الصفر. يبدأ أي مجتمع صناعي من الورش الصغيرة التي يعمل بها أبناء الوطن بأيديهم؛ فالنهضة الصناعية الحقيقية هي التي تقوم على يد المواطن المدربة ولا تعتمد على اليد الأجنبية. يروي لي أحد الأصدقاء قائلاً: «رحلت إلى الصين لشراء بضاعة من الأقلام الصينية بعد أن راسلت أحد المصانع عبر البريد الإلكتروني استعداداً لبيعها في بداية العام الدراسي الجديد. كنت أظن أنني سوف أدخل مصنعاً ضخماً من الآلات والمكائن ولكنني فوجئت بأن المصنع عبارة عن غرفة صغيرة مقسومة إلى جزءين بينهما نافذة. القسم الأول توجد به مكينة صغيرة عبارة عن مكبس للأقلام وعامل واحد فقط فإذا فرغ ناول زميله الآخر عبر النافذة لكي يقوم بالتغليف. إنه مصنع متناهي الصغر والبساطة ولا يحتاج إلى عمالة ولا إلى أرض واسعة أو تكاليف تأشيرات». لقد بسّطوا العمل الصناعي لكي يستطيع أي مواطن أن يمارسه بتكاليف ضئيلة. ولا عجب أن تعرف أن السيارات اليابانية التي تصل إلينا يشترك فيها عدد هائل من المصانع الصغيرة التي يمتلكها أفراد لا علاقة لهم بالشركة الأم. فالشركة الكبيرة تصنع الماكينة والهيكل وتأخذ بقية قطع السيارة من أصحاب المصانع الصغيرة لكي تتخلص من أعباء القطع الخفيفة وتعطي فرصة لتمهين أفراد المجتمع والارتزاق وفق منظومة المجتمع الصناعي المتكاملة.