ما زال الحنين والشوق إلى أصوات المكائن الزراعية يتراقص في آذان ومسامع الكثيرين؛ ممن أدركوا زمن الماكينة الزراعية التي قلّ أن تجدها الآن في الضواحي والقرى والمناطق الزراعية، حيث كانت مصدراً من مصادر الخراج، وسبباً من أسباب الرزق والإنتاج؛ حتى أصبحت جزءاً من ثقافة الآباء والأجداد، بل أُنس وحدتهم ونديم فرحتهم، التى طالما أشبعوها وصفاً وغزلاً في أخبارهم وأشعارهم، وأجادوا بل وأتقنوا التعامل معها والتعرف على أجزائها ومكوناتها حتى أصبحت ربيب حكايتهم ووليد قصيدتهم، بل كان صوتها على آذانهم كتغريد البلابل، كما كان لإنتاجها سحر كسحر بابل بحدائقها المعلقة؛ لذا ما زال استحضار صورة القرية ودوي الماكينة وصياح الديكة مع إشراقه الصباح ورائحة الندى بين البيوت الطينية، ونسيم المزارع يذكي قريحة الشعراء وإبداعات البلغاء. لقد تعامل الآباء ومن قبلهم الأجداد مع السير والخرفية "الطرنبة" والحذافات "البكرات" و"بلف" الهواء والنار و "شنابر" الزيت و"البستم" والهندل والضباح -وهو ماسورة ترفع على مستوى العادم كي يسمع صوت الماكينة-، كما تعاملوا مع مكائن ال"رستم" وال"ينمار" وال"ابيتر" وال"مرسيدس" وال"ليستر" وال"فولفو" وال"كومنز" وماكينة ال "بلاك ستون" -التي تعتبر من أشهر المكائن وأكثرها انتشاراً وأقربها إلى قلوب الأهالي آنذاك بل وأكثرها حضوراً في حكاياتهم وأشعارهم-. "قوطي الشكمان" وكان من حيلهم أن يضعوا على عادمها "الشكمان" علبة أو "قوطي" حرزاً لها من الطيور أو الحشرات أو لمعرفة تغير صوتها عند انقطاع السير؛ كي يمكن إدراكها قبل أن ترتفع حرارتها وتتعطل، في حين يجد البعض في وضع "القوطي" تميزاً لماكينة عن غيرها، أو قل إن شئت أنه نوع من التباهي والمفاخرة بحضور الماكينة، لاسيما وأن الهندل كان يحتاج إلى رجل "قوي شديد" يجيد التعامل معه إذ طالما عاد على صاحبه فأصابه ب"المصع" و"الملع"، ولا أدل على ذلك إلى قصيدة ذلك الشجي في زوجته التي استطاعت أن تدير "هندل" الماكينة، إلاّ أن السير والبكرة جذبا شعرها المسترسل في قصة مأساويةٍ. ماكينة "البلاك ستون" كانت ماكينة "البلاك ستون" التي تدار بمحرك الديزل أو الجازولين إنجليزية الصنع، ولها حجم صغير بمقاس "16" حصان وآخر أكبر بمقاس (26) حصان، وتعد الأشهر والأكثر انتشاراً، ولا يجاريها في قوة التحمل إلاّ ماكينة "المرسيدس" الألمانية، وماكينة ال "كومنز" الأمريكية ذات ال "470" حصان؛ في حين كانت ال"اينمار" يابانية و"الفولفو" حديثة الصنع آنذاك سويدية، كما كان موضع الماكينة يسوّر بجدار صغير "حائط"، وتغطى هي بالقماش والسواتر حتى لا تتعرض للغبار والأمطار أو الحشرات فيؤثر ذلك على أدائها ودوران محركها، بل ربما انقطع سيرها جراء هذه الأتربة والغبار، ولذا يراعى إظهار ماسورة العادم "الشكمان" للخارج واللجوء إلى تدفئتها عند الشتاء ومتابعة عملية غيار الزيت وتعبئة الديزل. كانت أحجام الماكينة متوازية مع حجم ماسورة الماء ف"6 بوصة" تحتاج إلى ماكينة ضخمة في حين تغطي الماكينة ذات ال"16 حصان" ماسورة بمقاس "3 بوصة"، وكان ذلك كله قبل أن يستبدل المزارع الماكينة بالغطاس و"الدينمو"؛ ليبدأ الفلاح عصراً جديداً في عالم الزراعة والفلاحة تلاشت معه ماكينة "البلاك ستون" وضراتها اللاتي طالما تضايقن من حظوتها وحسن معيشتها، حين ذاك فقد المزارع وأبناؤه دوي صديق طالما زاملوه وخليلٍ طالما سامروه يؤنسهم في كدهم وكدحهم ويحرسهم في نومهم سلوتهم، وهو مع هذا صديقهم دائم في سموم الصيف وزمهرير الشتاء. رجف الماكينة! أصبح صوت "المكائن" يغني عن صوت السواني وأصبح الرجال يتعاملون مع ماكينة ال"بلاك ستون" وضراتها من ال"ينمار" وال"كومنز"، كما أصبحت النساء في بيوتهن يتعاملن مع ماكينة ال"سينجر" اليدوية لحياكة الملابس وخياطة الثياب، وبين صوت الأولى والثانية راح أحد أبناء ذلك الجيل ممن داهمته "دويهية" العشق وحلت بساحته تباريح الهوى والهيام، راح يشكو لواهيب الغرام وحرارة الفراق وهو يتغنى: سلموا لي على اللي سم حالي فراقه حسبي الله على اللي حال بيني وبينه لذكرت الزمان اللي مضى والصداقه عود القلب يرجف مثل رجف الماكينه قايد الريم تاخذني عليه الشفاقه ليتني طول عمري دبلةٍ في يمينه حياة النخيل وبيت الطين مضت ولن تعود