1. صواب التاريخ وخطأ الرواية. هذا احتمال ينبغي أن نتصرف بناء عليه، عندما يتعلق الأمر بمرجعية الأدب، محتفظين بحق الفن في الخطأ. وبما أن الرواية قد نشأت تاريخياً مرتبطة بشهوة التسجيل الحي للحياة، ذاتاً وموضوعاً، فهي إذن ستظل خدينة الوثيقة لسنوات طويلة في تجربتها الأدبية، منذ نص إلياذة/أوديسة هوميروس، الذي سجل فيهما تاريخاً سابقاً عليه، لم يحضره، فدوّن تاريخاً خيالياً خالصاً، ليؤسس ميثولوجيا جديدة، سيعتبرها اللاحقون جذراً للسرد الروائي. غير أن التطورات الفنية الهائلة، عبر التحوّل الثقافي للشعوب التي ستصيب هذا الفن، حقبة بعد أخرى، عمقاً ذاتياً بالنسبة للكاتب. وسوف تتغير، بدرجات متسارعة ومختلفة، الطبيعة الفنية للسرد الروائي بين فترة وأخرى. فبالرغم من أن عنوان رواية ليو تولستوي (الحرب والسلام) كان يشير مباشرة إلى موضوع الحرب، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يزعم بالركون إلى تلك الرواية كمصدر دقيق لتاريخ المجتمع الروسي في الحكم القيصري وأثناء عهد نابليون. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن رواية (لمن تدق الأجراس) لهمنغوي، حيث يصعب اعتمادها مصدراً تاريخياً للحرب الأهلية الإسبانية، بالرغم من صدورها عن مراسل حربي عاش تلك الأحداث، وكتب التقارير الإخبارية عنها لصحافة بلاده. 2. ولكي لا نغفل العلامات، تعتبر رواية جيمس جويس (يوليسيس)، النص الأكثر نقضاً للواقع، في اللحظة ذاتها التي ستدور وقائعه في مدة محددة، هي يومٌ واحدٌ فقط (24 ساعة)، يوم 16 يونيو 1904تحديداً، في مدينة دبلن الإيرلندية، موطن الكاتب. ورغم التطابق الجيوغرافي الذي حققه الكاتب بين النص وملحقه القاموسي، والمكان الواقعي، غير أن النص، عمقياً، لم يخضع لأية دلالات حياتية واقعية، بالمعنى المنطقي للواقع. تلك هي الرواية التي اعتبرها نقاد العالم الأنموذج المثالي لحداثة السرد الروائي، من حيث البنية والأسلوب، (تيار الوعي). أكثر من هذا، لا يزال النقد المعاصر يعتبر (يوليسيس) واحدة من أهم (100) رواية في القرن العشرين. هذا كله لا يحمل رواية جيمس جويس أية مسؤولية تاريخية، مقارنة بالوثيقة المقترنة بالتاريخ الحقيقي لمدينة دبلن وأحداثه وشخوصه، في 16 يونيو 1904 على وجه الخصوص. سوف يتوقف مؤرخو الأدب ونقاده عند التخوم الفنية للرواية، من دون النظر إليها كمصدر للتاريخ ، أو اعتبارها وثيقة تاريخية. 3. دائماً سوف لن يصمد الفن الروائي لامتحان التاريخ. فالأدب في العمق يستعصي على امتحان الصدق، وجماليات الخطأ هنا يكاد يكون انحرافاً لازماً. ليس لأن الفنون، بمخيلتها الجامحة، سوف تجنح لما يمكن أن يسميه بعضهم «كذباً»، ولكن لأن أشكال التعبير الفني، بسبب من طبيعتها الإبداعية، تنهض على فكرة الخيال المغاير. بل إن التحرر الذي سوف تحققه الرواية من سطوة التاريخ بوصفه واقعاً، هو ما يجعل التاريخ شيئاً والفن شيئاً آخر. من المؤكد أن من يريد أن يعرف تاريخاً يدرك أين يذهب، لكن من يرغب في قراءة الرواية عليه أن يتحرر من وهم الوثيقة. إن أية مقارنة بين الأدب والتاريخ، هي مقارنة غير عادلة. ليس فقط لأنها تظلم الإثنين، ولكن خصوصاً لأنها، فيما تجعل التاريخ حاكماً على الأدب، سوف تلغي أدبية الأدب، وتُفرغه من جوهره الخاص، الذي يميزه، دون أن يقلل من شأن التاريخ في سياقه. ففي حين لا يجوز للمؤرخ تشغيل خياله وهو يسجل الحدث، فإن المخيلة، حصرياً، تعتبر أهم أدوات الأديب، فيما يصوغ روايته. وشتان بين «رواية» المؤرخ و«رؤية» الأديب. (يتبع)