قد يكون الكاتب الأسوأ صيتاً لكثرة تردده على الحانات وبيوت الهوى كما كان يصرح بنفسه متباهياً، لكن جيمس جويس، على الضفة الأخرى، هو واحد من أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين. كما في حياته الخاصة كان في أعماله. كاتب غير تقليدي، جريء إلى أبعد الحدود، قادر بتقنيته المبهرة على الولوج إلى أعماق الوعي البشري ليعريه تماماً، ولعلها السمة الأبرز التي جذبت قراءه إليه. في البداية، تعرضت أعماله لرقابة مشددة، أحرقت، حوكمت أمام الملأ بتهمة ارتكابها الفاحشة، ولكن سرعان ما أدرك الأكاديميون والمثقفون قيمتها فانبروا للدفاع عنها وعنه باعتباره من مؤسسي «تيار الوعي» الأدبي. المفارقة أن نتاج جيمس جويس الأدبي شغل الكتاب والنقاد إلى حد هائل حتى أن الأعمال النقدية والتحليلية لكتبه تجاوزت المئات، وربما يرجع ذلك جزئياً إلى التعقيد الغامض والألغاز المحيرة التي طبعت أسلوبه لا سيما في «يوليسيس» و «يقظة فينيغان»، إلا أن حياته الشخصية الصاخبة لم تحظ بالاهتمام عينه على رغم أنها لم تكن مغلقة قط. ولد جويس وعاش في دبلن الإرلندية في عام 1882 لوالدين من الطبقة الوسطى، وضع وهو في السادسة من عمره في مدرسة داخلية يشرف عليها رهبان يسوعيون، وقد هيأته تربيتهم القاسية لأن يألف النظام ويتزود بدراسة علمية أدبية كلاسيكية غنية أفادته في كتاباته. غير أن التزمت الشديد الذي اتسمت به تلك التربية خلف في نفسه رواسب من التمرد والتحدي، أدت في شبابه إلى زعزعة إيمانه وإلى كره متقد دائم لرجال الدين. السيرة الحديثة أفرزت العقود الأخيرة ثلة من السير الذاتية للعديد من نظرائه المحدثين مثل تي اس اليوت، ارنست همنغواي، ازرا باوند، وليام فولكنر وغيرهم، ولكن مضى 53 عاماً على إصدار ريتشارد ايلمان السيرة الذاتية الأولى والشاملة لجويس، قبل أن يقرر كاتب السير الذاتية البريطاني جوردون بوكر، الذي سبق أن كتب عن أدباء كبار أمثال جورج أورويل، مالكولم لوري، ولورانس داريل، أن يضع سيرة ذاتية معقدة وضخمة عن الكاتب الإرلندي المختلف، بعنوان بسيط «جيمس جويس: سيرة جديدة»، والصادرة حديثاً عن دار «ميدنفيلد آند نيكلسون». يتحدث بوكر عن جويس كما لو أنه «دانتي مدينة دبلن» علماً أنه شغل الناس بسبر أغوار الكوميديا البشرية لا الإلهية. وتهدف السيرة الذاتية الجديدة على تعبير بوكر إلى «تجاوز الحقائق المتعارف عليها للوصول إلى حقيقة الوعي المحير لدى جويس»، مع إشارته إلى «أن معظم كتاباته قدمت لمحات عن حياته الخفية». نتيجة لذلك، يسعى بوكر في كتابه إلى الربط بين حياة جويس وأدبه القائم على الخيال المستمد أيضاً من الواقع. لذا تراه يربط بشكل ميكانيكي بين أحداث وأماكن معينة ظهرت في كتبه وكانت مرتبطة بحياته الخاصة. على سبيل المثل، يشكل شغف جويس بحفلات قاعة الموسيقى البريطانية الحلقة الأساس في فصل «سيرس» في «يوليسيس» و«يقظة فينيغان»، كما تشرح قراءات جويس لمختلف كتب جوناثان سويفت في مكتبة بالقرب من كاتدرائية القديس باتريك «سبب تربص سويفت بأجزاء من يوليسيس وروايات أخرى». وعلى رغم أن مهمته في «الولوج إلى وعي جويس» قد تكون محيرة، تمكن بوكر من خلق صورة جديدة له، وبخاصة لذلك الشاب الذي يتمتع «بروح كوميدية مرحة» حولته إلى جانب «تألقه وملاحظاته للتناقضات البشرية» إلى أهم الروائيين المحدثين. لكنّ الكاتب لم ينس معاناة جويس في معظم فترات حياته. لذلك تخيم على معظم فصول السيرة الذاتية، سلسلة من الويلات والتحديات التي عصفت بحياة الكاتب الإرلندي الفذ الذي كرس نفسه لأدبه. تبرز محطات من الفقر بسبب إنفاقه المستهتر، والمرض الذي أصاب عينيه ومعدته، والتشتت الأسري بسبب والده الماجن، والاكتئاب لا سيما بعدما أصيبت ابنته الكبرى بمرض عقلي، والتنقل المستمر في جميع أنحاء أوروبا سعياً لإيجاد مكان للعمل. كما تميزت سيرة جيمس جويس الجديدة بطرحها الجريء لكل ما يتعلق بحياته الشخصية مروراً بمرحلة شبابه التي اتسمت بالسمعة السيئة والتي زادت عقب ارتباطه بعلاقة غير شرعية مع نورا التي أنجبت منه، ما جعل جيرانه يتهامسون عن سر تلك العلاقة، فكثيراً ما كانوا يشاهدونه متشاجراً معها بسبب حالات السكر المتكررة وتردده على بيوت الدعارة كما كان يصرح لها ذلك بنفسه. وبسبب كرهه لرجال الدين رفض جويس مؤسسة الزواج برمتها. وإلى جانب نورا التي يتحدث الكاتب عنها بكثير من التعاطف لكونها وقفت إلى جانب جويس على رغم معاملته السيئة لها، تظهر شخصيات بالغة الكرم دعمت جويس وقدرت موهبته على رغم أسلوب حياته، فدعمته مالياً ومعنوياً، مثل الكاتب ازرا باوند الذي كان له دور أساسي في تعريف الناس إلى جويس في المقام الأول، وناشرة «يوليسيس» الأولى سيليفا بيش، والبريطانية هارييت شو ويفر التي كانت تموله وتحثه دوماً على الكتابة إلى أن وافته المنية عام 1941 في زيوريخ. الرواية المعقدة عانى جويس صعوبات بالغة في نشر كتبه. استغرقه الأمر أكثر من 8 سنوات لإيجاد ناشر لرواية «الدبلنيون» يكون على استعداد لتحمل مخاطر نشر كتاب يحمل من الصور الأدبية والعبارات ما يكفي لتعرضه للملاحقة القضائية. وهكذا، استغرق الأمر أكثر من 10 سنوات لإعادة نشر «يوليسيس»، بعد طبعتها الأولى في باريس، قبل أن تصبح متاحة بحرية في العالم الناطق بالإنكليزية. ولم يكن جويس على عداء مع الرقابة فقط، بل مع مجموعة من النخبة المغرورة في المجتمع الأدبي نفسه مثل فرجينيا وولف، التي كتبت في مذكراتها أنها وجدت في «يوليسيس» «كتاباً أمياً ومستهتراً... كتاباً بقلم رجل عامل علم نفسه بنفسه». أماغوس إدموند فكتب عن جويس: «هو ليس تماماً من دون موهبة، لكنه دجال أدبي إلى أقصى الحدود». وعلى رغم الانتقادات، صنفت روايته «يقظة فينيغان» الصادرة عام 1939 كأصعب وأعقد رواية في تاريخ الآداب الإنسانية بما تحمل من أسلوب فريد من نوعه في أبدع محاكاة للطبيعة البشرية، وقد استغرق في تأليفها قرابة 17 عاماً لتخرج في النهاية ضمن ألف صفحة مليئة بالألغاز اللغوية. أما رواية «يوليسيس» فحققت نجاحاً منقطع النظير. وفيها يعتمد جويس البنية الهوميرية للإلياذة ليبني ملحمة معاصرة تسجل تحركات البطل ليوبولد بلوم داخل مدينة دبلن خلال يوم واحد فقط يحمل تاريخ 16 حزيران (يونيو) 1904 والذي لا تزال مدينة دبلن تحتفل به حتى اليوم تحت مسمى «يوم بلوم»، علماً أنه هو تاريخ اللقاء الأول بين جويس وحبيبته نورا. من خلال خط سير بلوم يسجل جويس تحركات المئات من سكان دبلن، وهم يسيرون في الشوارع، يلتقون بعضهم ببعض، يتعارفون ويتحدثون في المطاعم والحانات. تحركات ونشاطات تبدو عشوائية وعفوية بمثابة سجل يومي لأحداث المدينة، ولكن في الواقع لا شيء عشوائياً مع جيمس جويس الذي يكشف في كتاباته العمق المتخفي وراء تلك الأشياء التي تبدو لنا عفوية وغير متعمدة.