إذا استثنينا شخصية «أوديب» التي لا تزال تواصل العيش بيننا منذ أقدم عصور الدراما الإغريقية، ولا سيما في القرن العشرين بفضل أعمال رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد الذي أفرد للشخصية ودلالاتها الإنسانية فصولاً في كتبه، من الصعب أن نجد في الأدب العالمي شخصية أخرى قدرت على العيش حقاً، على مدى ألوف السنين، متداخلة في آداب الشعوب، خائضة حياة جديدة بدلالات متجددة في كل مرة، تضاهي في ذلك شخصية يوليسيس، التي ملأت حياتها ومغامراتها صفحات «إلياذة» هوميروس و «أوديسته» وصولاً إلى رواية جيمس جويس الحاملة اسم الشخصية، والتي تعتبر واحدة من أكبر روايات القرن العشرين وأهمها. يوليسيس هو الشخصية الوحيدة التي تطاول أوديب، مشتغلة على المخيلة الإنسانية وعلى أذهان المبدعين، ودائماً من منطلق يرتبط بالأسطورة الأولى: أسطورة العائد بعد غياب وبعد أن خاض المغامرات والضياع، مثلما ستكون حال سندبادنا العربي الذي قد لا يكون من المبالغة القول، إنه المعادل الشرقي ليوليسيس الغربي. ولئن كان دانتي، من بين كل الذين تناولوا، في أعمالهم، شخصية هذه الشخصية، الوحيد - على حد علمنا - الذي جعل، خلال بدايات النهضة الإيطالية الإنسانية، من يوليسيس رمزاً لإنسانية تواقة إلى المعرفة وذات إرادة تدفعها إلى محاولة البحث عن الذات، فإنه كان من المتوقع أن يلي تجديد دانتي في دلالة الشخصية، اهتمام بمثل هذا التجديد، لكن ذلك لم يحصل. خصوصاً في إيطاليا النهضة. من هنا، يظل من المستغرب أن مبتدع فن الأوبرا بمعناه المعاصر، الإيطالي كلوديو مونتفردي، على رغم نهضويته التي تجلت في عمله التأسيسي «أورفيو»، حين كتب أوبراه منطلقاً فيها من شخصية يوليسيس، اختار أن يعود إلى الدلالة العتيقة للعمل، تلك الدلالة التي تتوقف بخاصة، كما كان يفعل كل الذين اقتبسوا العمل من بعد هوميروس، عند عودة يوليسيس إلى إيتاكا، ونضاله ضد خاطبي ود زوجته بينيلوب، التي ينتهي بها الأمر إلى التعرف إلى زوجها المفقود... وما إلى ذلك. ومهما يكن من شأن اختيار مونتفردي، فلا شك في أن عمله الأوبرالي الكبير هذا يظل حياً، ومرجعياً، على رغم أن موسيقيين كثراً جربوا حظهم مع العمل نفسه، ونجحوا غالباً، إنما من دون أن يصل أي منهم إلى النجاح الرائد الذي حققه عمل مونتفردي. ونذكر من بين هؤلاء، الفرنسيين شارل غونو وكميل سان - سانس... حين وضع مونتفردي أوبرا «يوليسيس» وعنوانها في الإيطالية «عودة يوليسيس إلى الوطن» في عام 1640، لتقدم للمرة الأولى في البندقية، اختار أن يبني موسيقاه على نص كتبه جاكومو بادوورا، في اقتباس عن الصفحات الأخيرة للأوديسة نفسها من دون أن يلقي بالاً لتفسير دانتي. وهذه الصفحات تتضمن بالطبع مشاهد العودة واستقرار يوليسيس في إيتاكا ونضاله وتعرّف زوجته إليه. عند بداية الفصل الأول تطالعنا بينيلوب زوجة يوليسيس، وهي لا تزال جاهلة أن هذا الأخير قد عاد إلى الديار، بعد سنوات التجوال والضياع. لذلك، نراها تواصل الشكوى من وحدتها بفعل غياب زوجها المحبوب، في الوقت الذي يواصل خاطبو ودها، وهم كثيرون، محاولاتهم الدنوّ منها وإقناعها، كل على حدة، بالزواج به. وإذ تبدو بينيلوب في بعض الأحيان صامدة في وجه الضغوط، تبدو في أحيان أخرى وكأنها على وشك أن تذعن وتقبل الارتباط برجل جديد، إذ تبدو في تلك اللحظات يائسة من عودة الزوج الغائب. لكن هذا الزوج، متنكراً في ثياب شحاذ، كان بالفعل وصل إلى جزيرة إيتاكا، بمساعدة مينرفا، ولجأ حال وصوله إلى كوخ الراعي إيميروس، ومن دون أن يكشف يوليسيس شخصيته أمام هذا الراعي، تعمّد إخباره بأن ملك البلاد سيعود عما قريب، آملاً منه أن ينشر هذا الخبر ليستطلع ردود الفعل عليه. وبالفعل يقوم الراعي بنشر الخبر في أوساط خطّاب بينيلوب الذين إذ يخشون من أن عودة الملك يوليسيس ستفسد خطط الحصول على بينيلوب الحسناء، يزيدون من ضغطهم على هذه الأخيرة التي لم يبلغها النبأ الذي أذاعه الراعي. هكذا، تجد بينيلوب نفسها مرغمة أخيراً على اختيار خاطب لها من بين كل أولئك المتقدمين المتنافسين. فلا يكون منها إلا أن تتعهد علناً أنها ستمنح يدها لذلك الذي سيمكنه أن يفرد قوس يوليسيس. هكذا، يدبّ الأمل في قلوب الخطاب، ثم يتوالون إلى القوس وكل منهم يحاول أن يفرد القوس، غير أنهم يعجزون جميعاً عن ذلك. وفي تلك الأثناء يكون يوليسيس، الذي كان كشف سر هويته أمام ابنه تيليماك، قد وصل إلى القصر، ودائماً متنكرا في زي شحاذ راغباً في ألا يتعرف إليه في البداية أحد. ثم يطلب أن يسمح له بتجربة حظه مع القوس. هكذا، ما إن يضع القوس على كتفه حتى يتمكن من فرده، ثم يتناول الأسهم، واحداً بعد الآخر، ويروح موجهاً إياها نحو الخطّاب قاتلاً أكبر عدد ممكن منهم، مسبباً فرار الباقين. ونراه إثر ذلك يقدّم براهين عدة، أمام بينيلوب على أنه هو زوجها الملك يوليسيس، عن حق وحقيق. وينتهي الأمر ببينيلوب التي لا تميل إلى تصديقه أولاً، إلى الاقتناع أخيرا بأنه زوجها الحبيب وقد عاد. وإذ ينال يوليسيس في النهاية رضا نبتون، إله البحر، وبركته يعود إلى زوجته وعرشه. لقد استند مونتفردي، إذاً، إلى هذه الخاتمة لتجوال يوليسيس، لكي يحولها إلى تلك الأوبرا التي كما كانت حال «أورفيو» أسست بدورها لهذا الفن. بيد أن مونتفردي لم يكتفِ بجعل أوبراه مجرد سرد للأحداث، بل شاء لها أن تكون أكثر من ذلك. هكذا، نراه يجعل للعمل تمهيداً تنشد فيه شخصيات رمزية عدة، أهمها واحدة ترمز إلى الضعف البشري، وثانية إلى الزمن وثالثة إلى المصير ورابعة إلى الحب. وكذلك عمد مونتفردي، إلى أن يضيف إلى الشخصيات المعروفة والمرتبطة بالدراما اليونانية الأصلية (وهي شخصيات يوليسيس وبينيلوب ويوريماك وميلانت وتيليماك...)، شخصية مهرج مضحك هي إيروس، الذي يعيش على حساب الخطّاب ويشجعهم دائماً على الدنوّ من الحسناء بينيلوب، مزيّناً لهم الزواج بها، ومؤكداً لهم أن زوجها لن يعود أبداً. والحال أن هذه الشخصية نالت حظوة كبيرة لدى المتفرجين الإيطاليين وقلّدت في أعمال أخرى لاحقة. وعلى رغم وجود هذه الشخصية قيل دائماً إن ثمة ثقلاً مملاً في بعض مقاطع الأوبرا. أما قوتها فإنها تكون، موسيقياً، حين يبدو التعبير عن العواطف كبيراً، مثلاً لحظات شكوى بينيلوب من وحدتها وحزنها، صارخة في زوجها الغائب «عد إلي، عد إلي»، بل كل ما تنشده بينيلوب التي تكون مأساتها عماد الأوبرا، أكثر من عودة يوليسيس نفسه. والحال أن هذا التفاوت في القوة التعبيرية بين أجزاء من أوبرا «يوليسيس» وأجزاء أخرى، جعل عدداً من النقاد والمؤرخين، يقول إن من المحتمل ألا يكون مونتفردي هو ملحن هذا العمل، أو يمكن أن يكون قد شاركه في تلحينه تلاميذ له، عهد إليهم بتلك الأجزاء التي تبدو اليوم ضعيفة، تاركاً لنفسه اللحظات الأكثر درامية وعاطفية. غير أن ليس ثمة في الحقيقة التاريخية ما يؤكد هذا. وكلوديو مونتفردي (1567 - 1643) يعتبر عادة، إلى جانب إبداعه في الموسيقى الكنسية الروحية وشتى أنواع المادريغال، رائد كتابة الموسيقى الأوبرالية بالمعنى الذي نعرفه اليوم. من هنا، فإن له في تاريخ الموسيقى الغربية، مكانة ريادية تضعه في صف واحد مع باخ وبيتهوفن وموتسارت. وهو ولد في كريمونا، شمال إيطاليا، لأب طبيب، وتلقى دروس الموسيقى باكراً، إذ بدت عليه، طفلاً، علامات الاهتمام بهذا الفن. أما مساره المهني فيبدأ من عام 1590 تقريباً حين عيّن مغنياً ولاعب كمان في قصر دوق مانتوفا، فنشنزو كونزاغا. وهو، إلى جانب الموسيقى، خاض الحرب في معارك واجه فيها الأتراك والهنغاريين، ثم خاض العمل الديبلوماسي، لكن ذلك كله لم يبعده من التأليف الموسيقي. وكان من أعماله الكبرى «أورفيو»، ذلك العمل الذي يعتبر «أول» أوبرا في التاريخ، مع أن ثمة مؤرخين يسبقّون عليها أوبرات أخرى لمونتفردي نفسه، ومنها «دافني» و «يوريديس». لكن مشكلة هذين العملين تكمن في أنهما نسيا تماماً! وظل مونتفردي يكتب أعماله طوال خمسين عاماً تالية، حتى وإن كان مجده قد خبا بعض الشيء لدى موت سيده وراعيه في عام 1612، حيث نراه يستقيل من البلاط ليعود إلى مسقطه، ومن ثم نراه يعيّن مديراً للموسيقى في كنيسة سان ماركو في جمهورية البندقية، ما مكنه من أن يتابع إبداع مؤلفاته، لا سيما في مجال الموسيقى الدينية. [email protected]