اختتمت الجولة الأولى لمفاوضات جنيف بتصريح للإبراهيمي أعرب فيه عن «خيبة أمله لعدم التمكُّن من إيصال المواد الإغاثية إلى مدينة حمص المحاصرة منذ 600 يوم ونيف»، هذا بعد أن تمَّ تخفيض سقف أجندة المفاوضات إلى مجرد المداولات حول تأمين مدخل إنساني يختصُّ بفتح ممرات آمنة للمدنيين المحاصرين في حمص كخطوة أولى. ورغم هذا الضمور الذي أصاب طموح المؤتمرين منذ اليوم الأول لانعقاد المفاوضات، فقد فشلت المحادثات في تحقيق الحد الأدنى والعاجل من مطالب الشعب السوري الذي يموت اليوم جوعاً وبرداً ومرضاً بعد أن استُهدف بالبراميل والسكود والكيميائي. ويجدر الذكر أنه في سطوة الظروف غير الإنسانية التي انعقد المؤتمر في مناخاتها المتلبِّدة لا بد من تسليط الضوء على مشاهد العسف والجور التي يعيشها الشعب السوري موازاةً واجتماعات جنيف2، التي ارتضت المعارضة، على بعض من ممثليها، أن يخوضوا غمارها العسيرة وهم خالو الوفاض من أي دعم عسكري أو دولي قد يقوِّي من موقعهم التفاوضي الذي يفترض أن يمثِّل ثورة شعبية متعاظمة بتضحيات شهدائها وكل من بقي على قيد الحياة من ناشطيها والمؤمنين بها في سوريا. نعم عقد مؤتمر جنيف2 وحضرته المعارضة السورية العتيدة في ظل كابوس التجويع الممنهج الذي يستعمله النظام السوري منذ عام ونيف، وهو أقرب إلى سلاح التدمير الشامل الذي لا تطاله القوانين الدولية ولا يمكن ملاحقة منفِّذيه بتهمة جريمة الحرب كما حدث إثر استخدام غاز السارين في 21 أغسطس 2013 ضد الأطفال والنساء من المدنيين العزل في مدينة معضمية الشام ومحيط العاصمة من مدن الغوطتين الشرقية والغربية. الطفلة رنا عبيد، ذات العام الواحد من العمر، توفيت بطلقة الجوع في مدينة المعضمية، تناقلت الأخبار العالمية صور جثمانها الصغير وقد برزت ضلوع صدرها وانتفخ بطنها، وقد أشار طبيب سوري في المشفى المحلي المتواضع الذي قضت فيه رنا «إلى أنها الحالة السادسة لأطفال يموتون من سوء التغذية فقط في معضمية الشام من ريف دمشق»، وأضاف «إن المواد الغذائية لا تبعد أحياناً سوى عشرات الأمتار، ولكن الأطفال يموتون بسبب نقطة تفتيش أو قناص يمنعان السكَّان من الوصول إليها». هذا وقد احتجَّت الأممالمتحدة مراراً لعدم تمكُّن موظفيها للإغاثة من زيارة البلدة منذ أكثر من عام بسبب الحصار. وأصدرت منظمة «أنقذوا الأطفال» الدولية تقريرها الذي يشير إلى أزمة أمن غذائي غير مسبوقة في مناطق الحصار بسبب شحِّ المواد الغذائية، وارتفاع أسعارها الهائل إن وجدت، وكذا بسبب عدم تمكن فرق الإنقاذ المحلية والدولية من الوصول إلى المحتاجين سواء في الداخل السوري أو في مواقع اللجوء التي لا تقل بؤساً عن حال النازحين والمحاصرين في الداخل، فقد اضطرت الفرق الإغاثية الأممية إلى تقليص الخدمات الإغاثية للاجئين في لبنان، حيث المخيمات الأشد عوزاً من أي موقع آخر للجوء، وذلك بسبب التدفُّق الهائل للَّاجئين الذي يفوق إمكانيات المنظمات الإغاثية مجتمعة. وتحالفت عاصفة أليكسا الثلجية التي ضربت المنطقة مع متعهدي الموت وأمراء الحصار الأسديين، وكان شكل الموت بفعل الصقيع متشابهاً بين من قضى بفعل العاصفة في الداخل السوري، حيث لا محروقات للتدفئة ولا كهرباء، وبين من قضى تحت سقف خيمة سقطت على رؤوس أصحابها بفعل سرعة الريح أو كتلة الجليد. وسجلت أول حالة وفاة سورية بسبب البرد في الرستن، حيث توفيت الطفلة نضال أسكيف بعد أن تجمدت يداها من البرد وتوقف قلبها لشدة الصقيع، بينما ودَّعت حمص الطفل حسين طويل ذا الستة أشهر من العمر بسبب توقُّف قلبه الصغير الذي عجز عن مقاومة البرد الشديد في ظل غياب كل وسائل العيش الأولية. نعم، عقد مؤتمر جنيف وشعار «الجوع أو الركوع» هو العبارة السائدة التي كُتبت بخط رديء ومستعجِل على حواجز الحصار الأسدي حول مدن وقرى ريف دمشق بغوطتيها. وتناقلت كاميرات هواتف النشطاء هذا الشعار الجديد الذي تتبناه القوات النظامية السوريَّة منذ أطبق الجيش كمَّاشته على محيط دمشق وريفها، حيث الحاجز الأخير لمعقل قوات الأسد المتربِّصة في العاصمة، ومصدر مخاوفها، إثر وصول مقاتلي المعارضة المسلحة إلى بوابة دمشق عبر ساحة العباسيين في وقت سابق. نعم، عقد مؤتمر جنيف 2 في أجواء موجة البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات النظام السوري العمودية على المناطق السكنية بشكل عشوائي، وفي وضح النهار، بهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، وإثارة الهلع بين السكان من خلال ترهيبهم، وإحداث أكبر قدر من الخسائر في الأرواح والممتلكات في عقاب جماعي ممنهج لكل من اعتنق ضميره الوطني نهج الثورة رافضاً العودة إلى عهد الاستبداد. ويقوم النظام بتصنيع هذه البراميل على عجالة وبصورة بدائية، حيث تُحشى براميل وقود معدنية بمادة «تي إن تي» الانفجارية، ويضاف إليها مواد نفطية لتساعد على الاشتعال وإضرام الحرائق، وكذا قصاصات معدنية ومسامير تتحوَّل إثر انفجار البرميل إلى شظايا قاتلة تستهدف الأجساد البريئة. وتبعاً لإحصاءات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن القوات الحكومية استخدمت «أكثر من 1425 برميلاً متفجِّراً أودت بحياة ما لا يقل عن 1179 مواطناً بينهم قرابة 240 طفلاً وأكثر من 97 امرأة، ومعظم الضحايا هم مدنيون سقطت عليهم البراميل في أحيائهم السكنية، فوق البيوت والمدارس وأماكن العبادة. وكان لمدينة حلب النصيب الأعظم من حجم هذا القتل، حيث تلاحقت غارات البراميل على المدينة وريفها في الأسبوعين الأخيرين من شهر ديسمبر 2013. وذكرت إحصاءات المرصد السوري أنه «منذ تاريخ 15 كانون الأول/ ديسمبر وحتى 22 منه، قتل بفعل غارات البراميل 301 مواطن، بينهم 87 طفلاً و31 سيدة و30 مقاتلاً من قوات المعارضة». تشير الإحصاءات المعلنة «والمؤكَّد أن الأرقام الحقيقية هي أعلى بكثير» أنه قد سقط في حرب بشار الأسد على شعبه ما يفوق 140 ألف شهيد، أي بمعدَّل شخص إلى شخصين يستشهدان في سوريا كل 15 دقيقة. وهناك أكثر من 8.5 مليون شخص اضطروا لهجر بيوتهم، مليونان منهم باتوا لاجئين. كما أن 9.3 مليون شخص أصبحوا في حاجة للمساعدة ويعتمدون على المساعدات الإنسانية، فيما يشكِّل أعظم كارثة إنسانية يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. أما عدد اللاجئين السوريين فقد تجاوز 1.8 مليون لاجئ، خلال الاثني عشر شهراً الأخيرة فقط، ليصل إلى أكثر من مليوني لاجئ، والعدد في تصاعد مستمر. أما عن المعتقلين، فحدِّث ولا حرج.. إذ يقدَّر عددهم بحوالي 230 ألف معتقل، عدد كبير منهم يمكن أن يكون قضى تحت التعذيب الممنهج في السجون، والتحق بسرب الشهداء. بدا واضحاً قبيل انعقاد مؤتمر جنيف 2 وخلال جلساته، التي لم يتعدَّ مفعولها المهاترات اللفظية بين الأطراف الحاضرة، أن أمريكاوروسيا وإيران مجتمعين يشجعون حالة الأمر الواقع «Status Quo» في سوريا مهما غلا الثمن، وكلٌّ منهم لمصلحة ذاتية مختلفة عن الأخرى، بحيث تلتقي المصالح عند الهاجس الأمني للدولة القاسم المشترك الأعظم بينهم: إسرائيل. فالمصالح القومية والأمنية العليا للولايات المتحدةالأمريكية تستدعي أن تنهي الأطراف المسلَّحة المتشددة بعضها على الأرض السورية، وبهذا يمكن التخلُّص من الشرَّيْن؛ الإرهابيين المسلَّحين الممثلين في حزب الله وأدواته من جهة، وداعش وإخوانها من جهة أخرى. أما روسيا العائدة إلى حلبة القوى العظمى من نافذة ومناخات الحرب الباردة التي تشعل نارها في سوريا، فتجد في بقاء بشار الأسد ونظامه، ولو ضعيفاً ومستنزفاً ولا يحكم إلا على 40% فقط من الأرض السورية، ضرورة سياسية واستراتيجية لاستعادة موقعها الدولي كقطب أعظم مقابل لوحيد القرن الأمريكي الذي يعاني من الهزال السياسي والاقتصادي. والجدير بالذكر أن روسيا تلقت الدفعة الأولى «عربوناً» لمساندتها للنظام السوري من خلال حصولها على حقوق استغلال حقول النفط والغاز لمدة 25 عاماً، التي قد تتوفر في عمق المياه الإقليمية السورية. ووقَّعت اتفاقية تمنح الشركة الروسية، سويوز نفتغاز، الناشطة في أحد حقول جنوبالعراق، الحق الحصري لاستثمار أول حقل بحري للغاز والبترول؛ الاتفاقية وقَّعها وزير النفط سليمان عباس، وشركة النفط الحكومية السورية، وشركة النفط الروسية، وتمتد منطقة الاتفاقية على 2190 كلم2. في عرض السواحل السورية، تجاه مرفأي بانياس وطرطوس، حيث يعتقد أن في باطنها الامتدادات الشمالية لحقول الغاز التي اكتشفت في عمق الساحلين اللبناني والإسرائيلي. كان حرياً بجنيف2 أن يعقد حين كانت البوارج الأمريكية قبالة السواحل السورية في حالة استعداد لإسقاط النظام بالقوة إثر الضربات الكيماوية التي وجَّهها النظام ضد المدنيين السلميين في الغوطتين وهم نيام في أسرَّتهم التي تحولت إلى توابيت للأطفال والنساء والشيوخ المحاصرين في ريف دمشق. عندها فقط كان يمكن للمفاوضات أن تثمر هيئة حكم انتقالية لأن نظام كهذا لا يفهم ولا يرتدع إلا بلغة القوة والصوت الأقوى، أَمَا وقد عقد في مرحلة خسر فيها الثوار مواقع على الأرض نتيجة تجفيف الدعم العسكري للمعارضة المسلحة بينما تنهمر براميل الموت المتفجرة على المدن السورية الآهلة بالسكان، والمعارضة في حالة شرذمة غير مسبوقة، فهذه النتائج الهزيلة كانت متوقَّعة ومرشحة. ويجدر بالذكر أن خير ما قيل في هذه المفاوضات تصريح لسيد ميشيل كيلو، الذي شارك فيها، مطالباً بتعليق جولات جنيف2 إلى حين توقُّف عمليات الإبادة الجماعية من قبل النظام للمدنيين في المدن والقرى السورية. فصل المقال يكمن في السؤال الكبير: هل سيجلب جنيف2 العدالة لمن بقي حياً ونجا من هذا الهولوكوست الذي لم تشهده البشرية إلا من فاشستيي الحرب العالمية الثانية، وإذا به يعيد نفسه في سوريا على يد «النازيين الجدد»؟ وما هي الآليات التي ستخرج بها المفاوضات من أجل تحقيق العدالة الجنائية حتى تستريح أرواح من قضوا تحت التعذيب أو بفعل رصاصة حاقدة؟ وكيف ومتى سيلقى عقابَه كلُّ من تجرَّأ وانتهك حقَّاً من حقوق هذا الشعب العظيم في الحياة والحرية والكرامة باشتقاقاتهم الإنسانية والسياسية كافة؟! أسئلة كبرى نودعها في ذمة من يتبوَّأون سدة ممثلية الثورة السورية الماجدة في جولات المفاوضات التالية.