مع أننا نبهر كثيراً بمبتكرات الحداثة المحيطة بنا والميسرة احتياجات حياتنا في هذا العصر، ونتخيل العصور الأولى عقيمة الابتكار، إلا أن نظرة أدق تبدي لنا أن ابتكارات مهمة نتجت في عصور ما قبل التاريخ المسجل، وأن ما استتبع من تقدم حثيث في المسيرة الإنسانية جاء تطويرا متنوعا ومتوسعا لتلك الابتكارات الأم. من المكتشف، مثلا: في إفريقيا قرائن دالة على استعمال النار وعدة عمل… في اليابان آثار مبان بدائية… في أوروبا آثار أعمال فنية وآثار صناعة زوارق وأسلحة… في الصين آثار صناعة الفخار… في فلسطين آثار صناعة النسيج… في فينيقيا آثار صناعة الزجاج… وفي مصر قرائن على صنع المزولة. أما في أرض ما بين النهرين، فقد عثرنا على آثار ابتكار الزراعة، وتربية الحيوان، واختراع العجلة، وصك النقود، وتصنيع آلات موسيقية. كل ذلك حفظتها لنا الأرض من عصور غابرة. إلا أن ما وسم أرض الرافدين بمهد حضارة الإنسان كان ابتكار الكتابة. بظهور الكتابة يفرق المؤرخون بين عصر ما قبل التاريخ والعصر التاريخي. أيضا بظهور الكتابة يؤرخون البزوغ الحضاري. معالم جنسنا البشري تشكلت وضوحا قبل حوالي مائتي ألف عام. لكن، لمائتي ألف عام كنا ننطق دون أن نكتب. بابتكار الكتابة منذ حوالي خمسة آلاف عام فقط نشأت الحضارات الأول: في سومر وبابل ومصر والهندوالصين. من هذه الحضارات الأم، الحضارتان الهنديةوالصينية وحدهما احتفظتا بتواصل تاريخي منذ البزوغ حتى اليوم. وإذا كانت الكتابة أول معلم حضاري، فالقانون من أول المواضيع التي تناولتها الكتابة عبر التطور الحضاري. فيما نزل من السماء، وفيما تبلور ضمن الاجتهاد الإنساني على الأرض، القانون كان أول نص نظم الشأن السياسي الاجتماعي البشري. قبل حوالي ثلاثة آلاف و800 عام، حفر حمورابي في بابل مدونته القانونية المؤلفة من 282 مادة على 12 لوحة نصبت في ساحة عامة ليقرأها الناس فيعلموا ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. أربعة قرون لاحقا نزلت التوراة، مواصلة التقنين والتنوير. بمثل ذلك، في أزمنة متقاربة، خُطت صحف تأصيلية في الهندوالصين، منظمة باكورة حياة الأمتين، ومن ثم مؤذنة في كل منهما بانتهاض حضاري. سقت هذه المقدمة الوجيزة بدءًا لنتوضح حول التطور التاريخي المديد الذي نتحدث في نسقه عندما نتحدث عن الكتابة والكاتب. رُغم الفارق بين ما كانت عليه الأمور قديماً وما هي عليه اليوم، الكتابة بقيت حافظة المعرفة ومستودع تراكمها عبر الأجيال، لذا هي العامل الأول في دفع المسيرة الحضارية. من هنا تواصل الاهتمام عالميا عبر التاريخ بالكتابة، الكتابة بحفر الرسوم ابتداء، ثم بحفر رموز الرسوم، ثم بالخط الأبجدي وتشكيل علامات رقمية بدائية. ورُغم صعوبة الكتابة والحساب بتلك الأساليب، واصلت المجتمعات الإنسانية عملية التدوين والتأليف والحساب بجهد جهيد، إلى أن اخترع الورق في الصين في مطلع القرن الثاني الميلادي، واقتبس صناعته المسلمون بسمرقند في القرن الثامن الميلادي، ثم اقتبس الغرب صناعة الورق من العالم الإسلامي في بغداد وسمرقند في القرن الثالث عشر، ثم اخترع الغرب -ألمانيا تحديدا- بعد قرنين آلة الطباعة. بتزاوج الورق وآلة الطباعة منذ القرن الخامس عشر قفزت عملية الكتابة وتأليف الكتب قفزة ضوئية. ومع مطلع القرن التاسع عشر، بإنشاء مدارس منظمة، عُمم التعليم الابتدائي، فنشطت الكتابة عامة منذئذ بوتيرة متسارعة. من هنا تثمين دور الكاتب التنويري عبر التاريخ، إن كان في مجتمعه أو في إثراء المشهد الثقافي وتشييد الصرح المعرفي عبر العالم. كتابة الكتب كانت من أصعب الأعمال قبل عصر الطباعة، لذا اليوم نحن نثمن المخطوطات تثميناً خاصاً لما استدعي تخطيطها من جهد وجلد – نثمنها بصرف النظر عما جاء فيها من محتوى ثمين أو غث. ومن يكون الكاتب؟ كان ولا يزال: قصاصا وروائيا وشاعرا وناقدا ومؤرخا ومفكرا وعالما متخصصا في علم طبيعي أو إنساني. هو اليوم أيضا إعلامي يكتب يوميا أو دوريا عن أحداث جارية في مختلف حقول الحراك الإنساني. هو اليوم أيضا شارح للناتج العلمي المتبلور من خلال مواصلة الدراسة والبحث من قبل المتصدرين الحركة العلمية عبر العالم. هو في عصرنا أيضا مدون إلكتروني. وهو في كل ذلك قد يكون كاتبا محترفا متفرغا للكتابة، أو مؤلفا في مجال تخصصه، أو ممارسا الكتابة كنشاط جانبي في حقل مأثور لديه، أو في مختلف الحقول. أيا كان مجاله ونمطه، دور الكاتب لطالما تميز بالريادة، ومهمته لطالما اتسمت بالتنوير. مَن من الكتّاب اليوم هكذا يعي دوره ويثمن مهمته لا يعفي نفسه من أن يكون مجيدا فن الكتابة، دقيقا في النقل، منهجيا في العرض، بارعا في الشرح، وفي جميع الحالات مراعيا مطلبي صدقية النقل وسلامة ممارسة حرية التعبير. أما حيث يتهاون الكتاب في أيما مجتمع بمراعاة مواصفات مهنية راقية للكتابة، فهنالك يتدنى مستوى الكتابة، فينصرف جمهور القراء، بالأخص منهم الأكثر وعيا وقابلية في التأثير، عن كتابات الكتاب في مجتمعهم إلى كتابات كتاب آخرين. إلى جانب صقل مهني في الإخبار والشرح في مجال الإعلام السائر تتطلب الكتابة قدرة على التحليل والتقييم. لكي يمارس دوره في مجتمعه، ريادياً وتنويرياً، وعلى نحو مفيد وناجع، لا ينبغي للكاتب الإعلامي أن يكتفي بمجرد نقل حدث أو وصف حال سائد أو إيراد نص خطاب أو ترديد تصريح رسمي. هو مطالب أن يتناول أيضا ما قد يترتب على الحدث أو على استمرار الحال السائد أو على الخطاب الرسمي أو على السياسة المصرحة من آثار إيجابية أو سلبية حسب ما يستنبط ويقدر. هو مطالب بالتفنيد والتمحيص، وجلب ما يدعم زعمه ويرجح رأيه بموضوعية وعرض رصين. بذلك يمارس الكاتب دورا فاعلا في تبصير اجتهادات مجتمعه، أكان على صعيد تكون الرأي العام أو تشكل التوجهات الرسمية حول أيما موضوع مهم. كل ذلك بغية الوصول للأوفى والأمثل من المعالجات والحلول بمعيار خدمة الصالح الوطني في المؤدى الأخير. بذلك يغدو الكاتب ممارساً دوراً ريادياً وتنويرياً في مجتمعه، ويغدو حقا أهلا لكل تقدير. الريادة أداء متميز من موقع اعتيادي، وكونها كذلك، هي متاحة لأي أحد منا من موقع عمله وحسب قابليته. إلا أنها متاحة للكاتب بشكل أخص. هي متاحة له ليس في النقل والشرح والتقييم للأمور السائدة أو الجارية فحسب، بل أيضا في المجال الفكري المعني ببحث المفاهيم وتطوير الرؤى في اتجاه الأجدر والأوفق من الترجمات العملية في الواقع المعاش. بذلك ترتدف الريادة بمهمة التنوير – أي التبصير بالأوفى والأمثل وطنياً وإنسانياً باطراد. لا يتغير شيء ما لا يتغير فهمنا له وتفكيرنا إزاءه. ولكي يأتي التغيير في اتجاه الأصلح لا بد من أن تشرح مبرراته معرفيا وتسند مقاصده أخلاقيا في جميع الحالات حتى يقتنع الناس بسلامة وصواب ما يُعرض. ولأن دور الكاتب ريادي وتنويري معاً، لزم أن يحرص دأبا على أمانة النقل وصدقية الإخبار وموضوعية الرأي ورصانة العرض في كل ما يكتب. فللكلمة مسؤولية يجب أن تراعى في جميع الأحوال، أأطلقت الكلمة خطاباً، أو سطرت مقالاً، أو نظمت شعراً، أو حتى همست همساً خلف جدران. أما وظيفة القانون إزاء الكتابة والكاتب فالأحرى أن تكون تنظيمية في إطار ما يستوجب الضبط والانضباط لأجل حظر قذف أو تشهير، أو تحريض ذي مساس خطر بالشأن الوطني أو بالصالح الإنساني. أما حيث يتعدى أداء الرقابة القانونية ذلك إلى كبح أو قيد لحرية التعبير من خلال مساءلات غير قابلة للتبرير بمعيار ما ذكرت من محظورات محددة، فهنالك تنشأ إشكالية الأجدر أن يفصل فيها ليس بقرار سياسي أو إجراء إداري، وإنما بحكم قضائي. نحن مجتمع متطور، ومن حولنا عالم يتطور بوتيرة متسارعة، واعدا بفرص ومتوعدا بتحديات. لذا وجب أن تتنامى قدراتنا العلمية والمعرفية طردا مع وتيرة التطور العالمي، كي نستطيع التعامل بنباهة ونجاعة مع المستجد من الفرص والمعترض من التحديات. طبعا للكاتب في مجتمعه إزاء هذا الحراك العالمي دور ريادي، فهو الناقل والشارح والمقيّم والناصح، ومن بعد ذلك هو يثري الثقافة الوطنية بعطاء أدبي، فكري، ومعرفي. مقابل ذلك، على المجتمع رعاية الكاتب وتشجيعه وتمكينه من أداء مهمته بحرية وطمأنينة. أما دور القانون إزاء الكتابة والكاتب، فالأحرى أن يكون موازنا بمعيار دقيق وأمين ومنصف بين حق الحرية وحد المساءلة، منطلقاً من وعي راسخ أن الحرية هي الأصل وأن المساءلة هي العارض، ولا يجوز تغليب عارض على أصل. نعم، نحن مجتمع متطور في وعيه، ولا يعقل أن يتطور الوعي في أيما مجتمع وطني ولا تتطور معه المدارك والمفاهيم، أو أن تتطور المدارك والمفاهيم ولا يتطور بتطورها الواقع المعاش، أو أن يتطور الواقع المعاش ولا يستولد ذلك تطلعات نحو الأوفى والأمثل من إيجابيات الحياة. الحرية -حرية الفكر والتعبير والتجمع لغرض مشروع- هي أولى تلك الإيجابيات. وهي أقواها استظهارا للنبوغ، وأصلبها ضمانا لعيش آمن كريم. للكاتب تحديدا، الحرية إكسير الإبداع. سفير عُماني سابق