نظمت بالعاصمة التونسية مسيرة شارك فيها قرابة العشرين ألف شخص ينتمون إلى أحزاب وجمعيات مختلفة. هؤلاء جمعهم قاسم مشترك هو مطالبة الحكومة بالتدخل لحماية الحريات الفردية والجماعية. أما من يهدد هذه الحريات، فإن الأزمة مرتبطة بتعدد تحركات التيار السلفي منذ الأسابيع الأولى التي توالت بعد فرار الرئيس بن علي. لقد كان أفراد هذا التيار يخضعون من قبل لملاحقات الأجهزة الأمنية، والكثير منهم كان قابعا في السجون بتهم لها علاقة بقانون مكافحة الإرهاب، الذي وضعه النظام السابق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لمزيد التضييق على الحريات. لكن بعد إطلاق سراحهم، وجدوا المناخ مناسبا للتحرك بعلنية وبدون قيود. ولم تمض سوى فترة وجيزة حتى اصطدموا بمن يعتبرونهم «أعداء الإسلام» من علمانيين وليبراليين. وفي هذا السياق تعددت مواجهاتهم مع الفنانين، والإعلاميين والمثقفين. وكان آخر ما تم تسجيله في هذا السياق الاعتداء الذي تعرض له بعض الصحفيين والجامعيين أمام مبنى قصر العدالة، بمناسبة محاكمة مدير قناة نسمة الخاصة بسبب بث شريط كرتوني إيراني، تم في إحدى لقطاته تجسيد الذات الإلهية. إن تواتر عمليات الاعتداء بالعنف ضد المثقفين يمثل مؤشرا خطيرا يدل على أن بعض السلفيين قد بدأوا يستعدون لتجاوز كل الخطوط الحمراء، ويدفعون بالمناخ السياسي نحو خط اللا رجعة. هكذا بدأ الأمر في مصر والجزائر وفي دول أخرى: تحرش ببعض المثقفين الذين وجهت لهم تهمة العداء للإسلام، ثم تهديدهم، وبعد ذلك الاعتداء عليهم بالضرب، وفي النهاية محاولة القتل ثم التصفية الجسدية. ليس هذا من باب التضخيم وتوتير الأجواء، فليس ذلك أسلوبي في تناول الأحداث، لكن الانزلاقات الخطيرة في التاريخ تنطلق في الغالب من جزئيات تبدو صغيرة. قلت بعض السلفيين ولم أعمم، لأني أدرك بأن هناك من أبناء هذا التيار من لا يقرون مثل هذه الممارسات المشينة والغوغائية. وفي صفوفهم خلافات حول العديد من المبادرات غير المتفق عليها. لأن السلفيين التونسيين أصوات متعددة وليسوا صوتا واحدا، كما أنهم لا يصدرون عن هيكل مشترك أو قيادة موحدة. من حق السلفيين أن يؤمنوا بما يروه من آراء تلزمهم لوحدهم، لكن لا يحق لهم بأي شكل من الأشكال فرض أفكارهم على الآخرين، أو ممارسة العنف ضد من يخالفوهم الرأي في مسائل العقيدة والأخلاق والسياسة. المساس بالحريات الفردية خط أحمر في تونس، على الجميع أن يحترموه، ولا يتخطونه. هم ليسوا سلطة ولا يمكن أن يقبل بهم أغلب التونسيين كسلطة داخل الدولة. وإذا ما استمر بعضهم في الدفع نحو هذا الاختيار فإن الحكومة مطالبة أخلاقيا ودستوريا ومؤسساتيا بمواجهتهم بالقانون، من أجل الحفاظ على أمن المواطنين وحرياتهم وحقوقهم ومصالحهم. وإذا لم تفعل ذلك فإنها ستكون مقصرة على الصعيد السياسي، وتعطي بذلك المبررات لمن يتهمهما ب«التواطؤ». في هذا السياق نشاطر ما جاء على لسان رئيس الحكومة في خطابه الذي ألقاه مؤخرا أمام أعضاء المجلس الوطني التأسيسي عندما اعتبر أن البلاد أمام مفترق طرق، وأنه «لا سلطان يعلو على سلطان القانون». مضيفا أنه «لا ديمقراطية بدون احترام للقانون» على ماذا يدل ذلك؟ هناك قلق متزايد داخل حكومة الترويكا تجاه أعمال العنف المتزايدة والمنفلتة بما في ذلك وزراء حركة النهضة أو على الأقل أغلبهم، لكن الخلاف الدائر يتعلق بكيفية معالجة الظاهرة السلفية. فحركة النهضة بالأساس تحاول تجنب الحلول الأمنية، حتى لا تتهم بأنها قمعية، خاصة وأن وزير الداخلية أحد كوادرها الأساسية الذي قضى أكثر من خمسة عشر عاما في سجون بن علي. وهو موقف يبدو مقنعا إلى حد ما، فالمعالجة الأمنية قد طبقت على أعضاء حركة النهضة وغيرهم ولم تنجح، إضافة إلى الكلفة الإنسانية الباهظة التي خلفتها مثل هذه السياسة. لكن السؤال الذي يطرحه الكثيرون: هل يمكن تنفيذ القانون وحمايته وفق ما جاء على لسان السيد حمادي الجبالي بدون الاستعانة بالأجهزة الأمنية، وبدون أن تنتهك هذه الأخيرة حقوق الإنسان؟. سؤال لا مفر من طرحه وأن تجيب عليه الحكومة والمترددون من النهضويين. من جهة أخرى، نحن نعلم بأن حركة النهضة حاولت اعتماد أسلوب الحوار لإقناع بعض السلفيين بضرورة مراجعة منهجهم في التعامل مع المرحلة الراهنة التي يقودها إسلاميون. وإذ وفقت في إقناع عدد منهم بشرعية المشاركة في الانتخابات، وهو ما استفادت منه الحركة بالتأكيد، إلا أنها في المقابل فشلت في تغيير أسلوب عملهم بالنسبة لعديد القضايا والمبادرات التي قاموا بها ولا يزالون. لكن المسألة قد تزداد تعقيدا، إذ هناك رأي منتشر في صفوف أنصار حركة النهضة يتمثل في الاعتقاد بأنه هناك من يتعمد تضخيم ما يقوم به السلفيون في أكثر من موقع، وذلك لاعتبارات سياسية يهدف أصحابها من وراء ذلك إلى الإساءة للإسلاميين. وغالبا ما يتخذ أصحاب هذا الرأي ما يجري في كلية الآداب بمنوبة مثالا لإثبات فرضيتهم، حيث يحملون العميد الذي ينتمي إلى حركة التجديد اليسارية، وأعضاء المجلس العلمي مسؤولية تعقيد الأوضاع بالجامعة، برفضهم السماح للمنقبات باجتياز الامتحانات. ما لم تنتبه إليه حركة النهضة أنها بترددها في التعامل مع هذه الأحداث والتجاوزات الخطيرة، أو سوء إدارتها لهذا الملف المعقد، إنما توجه رسائل عكسية لبعض أبناء التيار السلفي، الذين قد يتصورون بأنهم فوق القانون، أو يتمتعون بحماية سياسية، أو أنهم يمثلون قوة تخشاها الحكومة وبقية أجهزة الدولة. وجميع هذه الإيحاءات من شأنها أن تزيد من تعقيدات وخطورة المرحلة القادمة، وأن تعود على الجميع بآثار سلبية، وفي المقدمة حركة النهضة. لابد في هذا السياق من وضع قواعد لعبة متفق عليها.ومن بين هذه القواعد البديهية أن من يثبت عليه بالدليل القاطع بأنه اعتدى على غيره بالعنف مهما كانت دوافعه، عليه أن يتحمل مسؤولية أفعاله، وأن يتولى القضاء الفصل في أمره، بعيدا عن التنكيل أو المس بالحرمة الجسدية للأشخاص. وبذلك تبلغ الحكومة رسالة قوية وصريحة إلى من يهمه الأمر فتعيد للدولة شيئا من هيبتها، وبشكل موازي يجب أن تبذل جهود حقيقة من أجل فهم الأسباب العميقة التي تقف وراء هذه الظاهرة ، وأن تتواصل محاولات الحوار والإقناع مع المستعدين لذلك من أبناء التيار، السلفي. وهؤلاء موجودون ويمكن أن يتحولوا إلى كوادر واعية تتحمل مسؤوليتها في ترشيد الفكر والممارسة. لأن العنف في الأساس هو فكرة قبل أن يتحول إلى ممارسة. وعندما تتغير الفكرة، يسقط معها النزوع نحو تكفير المخالفين، واعتبارهم أعداء يجب التخلص منهم اعتقادا بأن ذلك هو شكل من أشكال التقرب إلى الله.