طرقات المساء، ورحيل الخطوات، وقد غطى الظلام مساريب تهامة، وأقدام الصبية المتسخة تستجدي الذاكرة «ابن عشقة» حين تمتطي طريق تية الطويل. قرى متناثرة بامتداد الوادي والسفوح، حكايات الجدات تلوذ باتجاه الأفق، وأصوات الطيور تحكي البيت المهجور. والمجنون الذي حل قيده وأطلق ساقيه للريح، والنار ذات الوقود وقناديل الكهوف، والفانوس الذي لاينطفئ نوره، وحزمات الحطب، وأساطير الخرافات التي سكنت مخيلة الجبال والرعيان، ونباح الكلاب، وتجاعيد السنين، وحجارة من البعيد. هكذا تخالني تفاصيل التفاصيل بحثاً وسبراً في أغوار ليلة في طريق شعار القديم الجديد. بعد أن فض السامر والسمار ليلهم، يترنم المكان بهمس المكان، والماضي ليلةٌ «سألت الريم ودروب القوافل» وذاكرة من حديد وقلب لا ينفك يتلو أن القمر حزين في مساءات السراة، والشعر يلبس أكفانه يتوارى في عيون شاعره، فيرسل الآهات فيضج صداه طريق ليلتي. وفي منحنيات شعار العقبة ذات الالتواءات الماجنة، يلوح طيفاً كحلم اللقاء، والحب طيفاً، يترنح السؤال في أنفاق العقبة الساحرة، عن حسناء شعار، فتنتصب العاطفة لتقول إنها هنا. ويتوشح المنطق ليقسم بأنها هناك، وحولها ولأجلها يختصمان. هدأ الخصام سكتت العاطفة في جلباب الليل البهيم، وسكن المنطق في مذكرات الفلاسفة الناعية. وتبدت حسناء شعار على حافة النفق الأخير طلوعاً، جاثيةً هائمةً باكيةً شعرها الكثيف يكسو وجهها الشاحب. تصرخ أنا الحرية العربية. أنا المكلومة بالفقر والعوز والفاقة. أنا الطريدة الشريدة بين الجبال والأودية. أنا الحسناء التي حملت هم النساء والثكلى. جراح الشيوخ وأحلام الشباب والفتيات المجهدات بالبطالة والجهل. نعم أنا الحسناء التي هاجرت من سطوة الظلم، والسفك والدم والبطش. أنا الحرية التي منحت وسام عزتي، وشرفي للشعوب. أنا دماء الشهداء، ودموع الأطفال. وحسرات البيوت المتهدمة. هاجرت من جحيم القنابل، وأزيز الرصاص، ودوي المدافع. هاجرت كي أخبركم بأنكم في وطنٍ عظيم وقيادته حكيمة تحكم بشرع الله دستوراً، ومنهجاً، هاجرت كي أخبركم بألا تسمعوا لصوت الغوغائية، يريدون الفتك والنيل منكم.. هاجرت كي أخبركم أن الأمن والأمان نعمتان لا يعرفهما إلا من فقدهما. توحدوا، تعاونوا، ولا تفرقوا. انظروا حولكم ترمي بشرر الفتنة والحرب. وأنتم ولله الحمد تواصلون التنمية والعطاء. هذه حقيقة التلاحم بين القيادة والشعب. أما وقد أوصلت رسالتي، وقد تشبثت ببقايا حريتها الممزقة. وتنظر إلى السماء. سأرحل عن هذا المكان علَني أجد أطرافي وإخوتي وأمي وقبر أبي الضريح، وقريتي التي أضاعوها وأي تاريخ أضاعوا. حضارات الآباء. حضارات الأجداد، إنه التاريخ..!! إنه التاريخ يا أمتي. إنه التاريخ يا أمتي. اصبري وصابري فالنصر قادم لا محالة. فالنصر قادم لامحالة..؟! رويداً رويداً رويداً يختفي الطيف والصوت، والسعال في رواية السحيق. في رواية السحيق..؟!