فايع آل مشيرة عسيري كأني بتلك القوافل تنحدر من صخور الذاكرة عبر وادي "تية" السحيق، و"حزامه" أو"سباقه" الأخضر الغليظ، وعقبات تحكي معاناة السنين "رجمٍ، وشعار، وضلع، والصمَاء" التي لن تسمع؛ لكثرة ما حل بها من الخطوب، والمحن، وغارات الدرك، و"الطربوش" الأحمر، ومذبحة الترك، من نافذة قلعة "شمسان" النايفة.. شيخ هرم يخط عسير حجارات بيض، ورسوم فنيَة.. تزين مزرعته المدرَجة، بعرق السنين، ووجه المعاناة اللذيذ، أسراب الحمام، وحبات القمح الصفراء على وجه أبي، طرق ترابية، طفشة سعفاء يابسة، وسواعد الفلاحين، ومنديل أمي الأصفر "للحماية من الشمس" ومضخة البئر البعيد، وطفل يستنطق الجبل، والصخر عسير الإنسان، والمكان ولحاف دريهمي يزين عاشق "محتبئ" بصمادته القشفاء، ينفث الحب في "ناي من العيدان"، وذاك عودٌ يحن لأصله بين كومة القصب المكلوم برائحة الطيبة، والسنحات التقية، وحشرجات القش العصية، ومواشيه المتسلقة، ومعطف جدي الذي ورثه عن أبيه عن جده.. تستنشقه أرواح الأطفال في ليلة عسير القارسة، و"صوت مؤذننا ينير ماضي عسير التليد مغرباً.. تحكي جدتي.. و"عند حلول الظلام، على مقربة من "مقبرة أجدادي" الأتقياء، يهرع الصبية خوفًا من ظلامها، ثمن الحياة، طعنات، وعقيدةً انتماء.. وهناك وفدت الوفود، وعلقوا "الفوانيس"، وألهبوا التنور، وأوقدوا النيران يستقبلون ضيوفهم القادمين، أصالة حرفٍ، ومعنى "مرحبا ألف"، بنفس الروح الجميلة واللكنة التي تزينها "لثغة الجدة" في حنايا بيت من الحجر، والقرى المعلقة في رأس جبل "تهلل" الأشم، وروايات المعارك، والنصر العظيم.. هناك يتبدى وفد العريس، و"هزلمة" دمة شعبية" تثير العزة، والنخوة الأبية، طالبين النسب، ويستقبله أهل العروس مرحبين، يشاركهم السحاب، والحب، وطلقات الرصاص، وبات الفرح يعم المكان، وعلى تراتيل موروثة تبقى طقوس العرس المشهود، والحناء المنقوش، و"المقالم المحضَاة"..الكل يجتمع في شرفات شيخ القبيلة؛ كي يتحاكموا عنده..حديث الشيوخ يحي الزفاف، ويخطو الشيخ بنفس خطوات الإيقاع، ويتحدى"الزير، والزلفة" الكرم يتجلى، ويقدم حنيذا شهياً، وما جرت عليه العادات، الأعراف "تموا، والله يحييَكم" يستمر العرس، ويستنهضون صبرهم، وعزتهم من عسرة طبيعتهم، بعد أن أضحت الطبيعة صديقة بالجوار، يستحضرها الشيوخ كلما علَهم الحاضر.. وفي جبال تهامة الشماء تسري بي اللحظة خلف قطيع من الصيد، وأخالني مع البرق، وسهيل اليماني، وحبات البرد، وسعال جدي الذي يستطيل عبر مساريب قرى، وقبائل عسير شمالاً، وجنوباً، شرقاً، وغرباً.. وعلى منحدرات التجاعيد، تصمت السيارات، وهدير الصناعات، كي تقع في أسر عسير الأم، وتتمات عشق يجترها ذاك الصوت المولود في أحضان طبيعة فاتنة، العرعر، والطلح، والسدر، وزلزلة الرعود، ومن برج الجبل الأخضر، ما تزال جدتي تقصص الحكاية، وتشتد الأحداث كلما استدارت بدمعها عن أحفادها المجتمعين حول موقد النار، وقد غشَاهم النعاس الوثير.. لتروي سطورها للزمان البعيد عن إنسان عسير الكرم، والنخوة، وحسن المعشر، وتاريخه الطويل.