سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    منطقة العجائب    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة إندونيسيا في التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2026    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    «سعود الطبية» تستقبل 750 طفلاً خديجاً    الله عليه أخضر عنيد    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    خامس أيام كأس نادي الصقور السعودي بحفر الباطن يشهد تنافس وإثارة    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كنت أول طالب يناقش الدكتوراه في جامعة الجزائر بعد الاستقلال
مشوار الناقد والروائي الجزائري عبدالمالك مرتاض:
نشر في الرياض يوم 24 - 06 - 2011

تجربة متميزة وثرية تحدث عنها بكل تواضع وشفافية، وقف عند أبواب الطفولة المبكرة بما تحمله من شقاء وفقر في ظل القرية التخومية التي ولدفيها، ذاكرة مملوءة بالصور القديمة جداً وإن كانت بعض الصور مهترئة وباهتة إلا أنه مازال يحتفظ بها في أرشيف ذاكرته المبدعة،حدثنا عن مختلف المراحل في حياته بشكل تصويري دقيق يذكرنا من خلاله أنه روائي و عن مشوار طويل تنبعث منه رائحة المثابرة معنا الناقد والروائي الجزائري الدكتور عبد المالك مرتاض.
طفولةٌ وصِبَا:
؟ في تلمسان 1935م كان المولد، ماذا تتذكّر من هذه الطفولة في ظلّ الاستعمار الفرنسيّ؟
- أن يؤوبَ المرءُ إلى أوّل حالةٍ يذءكُرُها من صِباهُ الأوّلِ ليس بالشأن اليسير، فالسنوات الأولى من الطفولة تبدو لنا مضبَّبَةً شاحبةً لا تكاد خيوطُها الزمنيّةُ تَبِينُ، وهي من أجل ذلك نَعُدُّها، حين نجاوزها بعشرات الأعوامِ، جميلةً طافحة الجمال...
كنّا نعيش في بادية نائية، جبليّة قاحلة في أغلب تضاريسها، هي مَسِيرءدَةُ بهضابها وجبالها، ووديانها وسهولها القليلة، فلم يأبه لها الاستعمار الفرنسيّ، ولا أظنّ أقدامَ جيشه وطِئَتءها إلاّ لدى اندلاع الثورة الجزائريّة؛ حيث انتشر الجيش الفرنسيّ في كلّ أرجاء الجزائر ليشدّدَ قبضته على الشعب الجزائريّ بكلّ طبقاته الاجتماعيّة...
ما ذا يمكن أن تذكر ممّا أنت ناسٍ؟ وما ذا كان يجب أن تنسَى ممّا أنت ذاكِرٌ؟ ذاكرٌ... من هذا الزّمان، ومن هذا المكان، ومن كلّ هؤلاء الأحياء، ومن كلّ هذه الأشياء... مِن هذه السّهول القليلة، وهذه الأوعارِ الكثيرة، وهذه الرُّبَى المتعانقةِ، وهذه الجبال الشّاهقةِ، وهذه المراعي الخصيبةِ، وهذه الءمَسايِل الجاريَةِ، وهذه العيون المتفجّرة؛ وهذه الأصوات النّاشزة من نُباح الكلاب، وعُوَاء الذئاب، وثغاء النِّعاج... ومن هذه الأصوات المتناغمة من غِناء الرُّعيان، ومن هذه الألحان الذائبة في صوت النّايِ الرّنّان، ونغَمِ المزمار الحَنَّان...؟
فماذا، إذن، يمكن أن تذكُر الآن ممّا كنت نسِيتَ من تلك الشّبكة الواهيةِ الخيوطِ من الذكرَيَات الشّاحبة، وحكايات الزّمن المتشابكة؟ بل ماذا أنت ناسٍ ممّا كنت تذكر بالأمس؟ وهل لم يكن النّسيانُ إلاّ رحمةً بالإنسان؟ فإنّ مِن النّسيان لَمَا يكونُ فيه السُّلءوانُ والعَزاء؛ وإنّ منه لَمَا يكون فيه الرّاحةُ والهناء.
أمٌ كادحة
؟ إذن، فماذا تذكر، على وجه التّدقيق، من سِنِي حياتِكَ الأولى؟ وهل من السّهل تمثُّلُ شريطِ تلك الحياةِ البعيدة التّائهة في الذاكرة الخَرِعَةِ دون أن يصيبه التّشويشُ والاضطراب، والبتر والانقطاع؟...
- ربما أقدَمُ ذِكءرَى لا تبرح تحتفظ بخيوط واهيَة منها في نفسك هي حين كنت تتعلّق في رقبة أمّك وهي قاعدةٌ تغزل الصّوف، وأنت تداعب ضفيرتَيء شعرِها الأسودِ الطّويل.
لم يكن ممكناً أن تتعلّق في أمّك من أمامها... ولا أن تأخذ بيدها وتمشي معها متجوّلاً بين الحقول والأشجار... كانت مشغولةً عن ذلك بما سِواه. لم تكن الوالدة تعرف لحظة من الرّاحة فتتجوّل أو تتنزّه كما كان يجب أن تفعل لو كانت تُلفي مَن يكفيها شؤون البيت. بل كانت تشتغل، ولا تتوقّف، بياضَ نهارها، وطائفةً من سَواد ليلها، كالنّحلة النّشيطة... فكيف كان يجوز أن يكون لك معها نصيب من النّزهة والعناية؟ ثمّ أين أنت من إخءوتك وأخواتك الذين كانوا متقاربين في الأسنان، فكانوا يملؤون فضاء الكوخ وما حَوَالَه من الدِّمنة ضجيجاً وعجيجاً؛ فكان كلٌّ منهم يتنازعها فيراها خالصةً له وحدَه من دون الإخوة الآخرين؟... ولكنّك كنت تنازع في نيل موقع من الأمّ، ولم يبقَ أمامك، على كلّ حال، إلاّ ظهرُها تُقءبل منه إليها، وتذهب منه عنها؛ لِتُحاولَ مداعبَتَها ومُلاعَبَتها، واستمدادَ شيءٍ من دَفءقِ حنان قلبها الكبير. فكانت قامتك تدنو قليلاً عن هيئة قِعءدتها.
وفوقك عَباءةٌ مرقَّعة بيضاء. وليس عليك سِرءوالٌ ولا أيّ سُترة سُفءلَى. أو كان عليك جِلءبابُ صوفٍ بَالٍ. لم تعُدء تذكر، في الحقيقة، من لباسك يومئذ شيئاً ذا بَالٍ. وإن هي إلاّ ذكرَيات سحيقة في الزّمان، شاحبة في التّمثّل، واهيةُ الخيوطِ، أنءشَبَتء أظفارَها في تجاعيدِ الزّمَنِ الءفَانِ. فلا أنت تذكر من طوائلِ صِباكَ كلَّ شيء فتسرُدَ الأحداث بدقّة وتفصيل، ولا أنتَ نسِيتَها كلَّها فتزهَدَ فيما انءتَسَى وهان، من الذاكرة المتهرّئة لِمَا غبَرَ من الدّهر وتقادم من الزّمان...
لكنّ الذي أفءلَت من قبضة النّسيان، بل ربما تذكره ذِكءراً يقيناً، أنّ رأسك كان حليقاً إلاّ من قُصّةٍ كانت تَنوس على قَذالك فتَتَدَلءدل على قَفاك... وكان فوق رأسك، في الغالب، شاشيةٌ حمراءُ لونُها قَانٍ. وتذكر أنّك كنت تمشي حافياً، وتذكر أنّك لم تكن ترتدي إلاّ ثوباً واحداً بالياً. لم يكن يجوز أن ترتديَ الثوب القشيب، لا أنتَ ولا لِدَاتُك من الأطفال، في تلك الأحراش المنقطعة عن العالم المتحضّر إلاّ مرّةً واحدةً في العام الخصيب. وفي عيد الفطر السّعيد. وكان عليك، إذن، أن تحافظ عليه إلى حينِ حلولِ عيد الفطر القادم. وكان عليك أن تتأهّب للعُرءيِ حين تغسِله لك أمُّك أو أخواتُك بنَبءت "تِيغِيغِيت". وكان هذا النّبءت الذي يكثر أيّام الرّبيع تقتطعونه ثمّ تُغءلونه في القِدءر بالماء والملح، ثمّ تتّخذونه طعاماً تأكلونه هنيئاً! وأمّا في الفصول الباقية فكان النّاس في ذلك الوجه من الأرض المنقطعة يحتفرون جذورَه لِيُحِلُّوهُ محلّ الصّابون الذي كان عليهم غالياً عزيزاً. بل كان من ثقافتهم غائباً بعيداً. فكانت الغاسلة تبلّل الثّوب المتّسخ أوّلاً، ثمّ تضع فوقه طائفةً من جذور تِيغِيغِيت البيضاء، ثم تشرَع في خَبءطها بالصَّبّانة على صخرة مسطّحة ملسَاءَ، ثابتة ثقيلة، حتّى يغتديَ ذلك الثوبُ نظيفاً، أو حتّى يخيَّلَ إلى الغاسلة أنّه اغتدى، أو كاد يغتدي على الأقلّ، نظيفاً. ثمّ تُلقي عليه شيئاً من الماء قبل أن تعتصره وتنشرَه على بعض أغصان الشّجر، أو على الأعشاب النّابتة، حتّى يجفَّ تحت أشعّة الشّمس وهبوب الهواء...
وأمّا الحمّام فلم يكن موجوداً في مسيردة كلِّها بأعاليها وأسافلها، وبواديها ومداشرها؛ فكان الواحد منكم إذا وقع له غديرٌ يغطس فيه، في أيّ فصل من فصول العام، غطَسَ فيه ولم يبالِ!.. فكان ذلك، إن وقع له مرّةً في الدّهر، فإنما يكون من العناية والتّوفيق! فقد كنت تستحمّ في غدير بوادي يَحءسوب حين كانت السّماء تجود بالغيث المدرار. ثمّ لا أكثر... فكان الصّغار إذن يلتمسون الغُدءران ليتكلّفوا الغطءسَ فيها متى صادفوها... وكان الولءدانُ والوليداتُ في ذلك الغطس سواء. وكان الاِستمتاع بالغطس في ماء الغُدران يتمّ خصوصاً في فصلَيِ الرّبيع والصّيف... وكان الواحد منكم ربما رأى من الآخر-أو من الأخرى أيضاً- كلّ ما خلق اللّه في الجسم، بادياً ظاهراً. ولم يكن أحدٌ يأبَه لِما كان يبدو من جسمه للنّاس أثناء الاغتسال في السّواقي، أو أثناء الغطس في الغُدران والعيون، أو حتّى أثناء العَوءم في مياه البحر في فصل الصّيف. كان النّاس على ذلك العهد يمارسون طقوس الغطس والعوم في الماء عَرايا، كالمَرايا؛ كما كان أهل الجاهليّة الأولى يطوفون بالبيت العتيق عَرايا...
وأمّا الكبار فكانوا يغتسلون من الجنابة بقَدَح ماءٍ بارد، في زاوية من البيت، إذا كانوا من المصلّين؛ فكان الماء في فصل الشّتاء هو الذي يتدفّأ بحرارة أجسامهم حين يتكلّفون الاغتسال وهم لا يكادون يُنكرون من أمر البرد شيئاً... وحتّى إذا كانوا يُنكرونه فلم يكن لهم أيّةُ وسيلةٍ لدفع ذلك الإنكار!
ويومَ غسءلِ عباءتك المتّسخةِ البيضاء. كان محكوماً عليك يومئذ بأن تظلّ عُرياناً حتّى تجفّ عباءتك. وتُراكَ الآنَ، فعلاً، عُرءياناً. كما ولدتءك أمّك. عُرياناً منذ لا تدري كم عدداً من السّنين... ثمّ ترتدي عباءتك البيضاءَ حين تجِفّ، أو تكاد تجِفّ. لم يكن لك ولا لإخءوتك ولا لأخَواتك ولا لأمّك ولا لأبيك ولا لِلِدَاتِكَ من الطِّفءلِ أثوابٌ أُخراةٌ، تُرءتَدَى حين تتّسِخُ الءمُرءتَدَاةُ. بل كان القملُ يعشّش في بَطائنها فلا يزال يتوالدُ فيها ويتكاثر. وربّما كان ينتشر على ظَهَائِرها أيضا حين يهيج به ذلك التّكاثُر فكنت تراه يتجوّل آمناً.
وزمنَ كانتء أمُّك تُمسكُ بك بين أحضانها. ثمّ تأخذ في فَلءيِ عباءتك المتّسخةِ البالية فكنت لا تزال تراها تقتل أجناس القمل التي حُشِرتء في البَطائن والظَّهائر جميعاً بين ظُفءرَيء إبهامَتيءها في براعة ليس أبرعَ منها شيءٌ!... وكان الذي يراها، يُدرك منذ الوهلة الأولى، أنّها اكتسبتء خبرة طويلة بفعل توالُد القمل في بَطائن الأثواب، وضَفائر الأشعار، وإلحاح الفَقر المدقع على النّاس بعامّة في ذلك الصّقع من الأرض، وتمرُّس النّاس على فلءيه، ولاسيّما الأمّهاتُ، منذ دهرِ الدَّهاريرِ. وحينَ كانت أمُّك لا تزال تصطاد تلك المخلوقاتِ القذرةَ وتطاردُها في بطائنِ ملابسِكَ حتّى لا تمتصَّ من دمك إلاّ أقلَّ ما يمكن أن يكونَ من الاِمتصاص. وحتّى لا تحُكَّ أنت جِلءدَك، أكثر ممّا تحُكُّه، فتورّمَهُ، كما ألِفءتَ، أثناء اللّيل، توريماً. فقد كان القمل يهيج عليكم إذا أرخى اللّيل سدوله هيَجاناً شديداً. وكان ليلكم يطول أثناء الشّتاء طولاً مُلحّاً لإبكاركم إلى النّوم؛ فكنتم تسمَعون لتلك الحَكّاتِ المتتاليَة الءمُتآنيَة التي كانت تَدءمَى منها جلودُكم: أصواتاً منكَراتٍ؛ فكانت تزيدكم ضيقاً بالنّوم، وبرَماً بطول اللّيل، وانزعاجاً من القمل المتكالِب... فكان الواحد منكم لا يزال يسمع، أثناء تلك اللّيالي الطِّوال، أزيزَ الحَكّ حين كانت الأظافر تُنءشِبُ جلودَكم بإيقاع محمومٍ... فكان البرد الشّديد الذي تكابدونه وأنتم مضطجِعون على حُرّ الحصير، يضاف إليه تكالُب القمل على جلودكم بالامتصاص، ممّا يؤرّق ليالِيَكم فلم تكونوا تنعَمون بالنّوم إلاّ قليلاً...
تلكم صور شعريّة في شكلها، حزينة في مضمونها من أيّام صبايَ دبّجتُها صادقاً...
الوالد الفقيه
؟ هل كان لوالدك الشيخِ عبدِ القادر بنِ أحمدَ بن أبي طالبٍ تأثيرٌ في حياتك؟
- كان الوالد، رحمه اللّه، فقيهاً حافظاً للقرآن الكريم، ولكثير من متون الفقه المالكيّ والنحو العربيّ، مثل متن الشيخ خليل؛ والعاصميّة؛ والمرشد المعين، في الضروريّ من علوم الدين. ومن متون النحو كان يحفظ متءنَ ألفية ابن مالك، ومتن ابن آجروم، ومتنَ "قَطءرُ النَّدَى وبَلُّ الصّدَى"... فكان يَحءملني على حفظ بعض هذه المتون التي أفادتني من بعدُ في تأصيل المعرفة التراثيّة، بالتوازي مع حفظ القرآن الكريم. وقد كان يلقّنني كلّ ما يعرف من حِكم وأمثال، مثل: "التعلّم في الصغر، كالنّقش على الحجر"، وكلّ ما كان يحفظ من قصائدَ وما كان في حافظته من أبيات شاردة تتناول طائفة من الموضوعات، وتجسّد جملةً من القيم والءحِكَم. كما أنّي تلقيت عليه مبادئ الفقه والنحو في مسجد الءخُمَاسِ بمسيردة: تدريساً. فذلك كان هو المفتاحَ، لديّ، لطلب العلم فيما بعدُ في معهد ابن باديس بقسنطينة، وجامعِ القرويين بفاس، قبل متابعة الدراسات العليا بجامعات الرباط والجزائر والسوربون بباريس.
قرية الخماس:
؟ ماذا تذكر من قرية الءخُمَاس؟
- تذكّرني قرية الخماس بالأطلال التي كانت الشعراء في الجاهليّة تَبكيها حين تعوج عليها فتذرف الدموعَ تَذرافاً، وتحتّ لمعاهدها الدَّوارِسِ تَحءناناً؛ إذء لم تعُد اليوم الءخُمَاسُ إلاّ أطلالاً باليةً، ومَرابعَ خالية، جفّت من المياه، وتجرّدتء من الأشجار، وتعرّت من الغابات إلاّ قليلاً. ولقد أُهءمِلتء دِمَنُها فلم تعد تُزءدَرَعُ كما كانت فتَنضُرَ وتخضارَّ، فأصبحتء أثَراً بعد عين، وخراباً بعد عمران، ووحشةً بعد أُنءسٍ. فقد قصف الجيش الفرنسيّ سنة 1955م مسجد الخماس مع الدُّور التي كانت تحيط به بعد تعرّضه لهجوم من جيش التحرير، فلم يُبءقِ من الءخُماس ولا من مسجدها الجامع شيئاً يُذكَر؛ فهاجرها أهلُها، ممّن نجا مِن قصءف جيش الدّمار شَذَرَ مَذَرَ، بعد أن كان مسجدها الجميل مكتظّاً بحفظة القرآن، وعامراً بطلاّب العلم، وممتلئاً بالمصلّين؛ فكان الحفظةُ الذين كان يشرف عليهم الوالدُ يقضّون الليالي في تلاوة القرآن، فكانوا ينتشرون زمنَيِ الربيع والصيف إلى الشِّعاب التي كانت تَحءدَوِدِقُ به فكان كلٌّ منهم "يخرّج" ختمة القرآن في ليلة واحدة: من البقرة إلى الناس!...
لقد أمست الخماس اليوم شبه مقبرة يخيّم عليها السكون والصمتُ الرهيب! ولقد أعاد بعض المهاجرين في فرنسا من الءخُماسيّينَ بناءَ المسجد، ولكنء هيهات!... لقد كانت تلك الدورُ عامرة بأهلها، فكانت تعجّ بالحياة، فكان الشباب يلتقُون كلّ مساء في ساحة "القعدة"، قريباً من المسجد، فكانوا يمارسون لعبة الءقَامِ، ولعبة كرة العصا، وكانوا لا يزالون يتبارَون في السباق، والمصارعة، وكلّ فنون الألعاب الفولكلوريّة البسيطة التي كانت شائعة في الخماس وما يحيط بها... كانت أعراس الخماس تدوم سبعة أيّام في عهد الأجداد كما أخبرونا، ثمّ اختُزلتء إلى مجرّد ثلاثة أيّام، فكانت الأفراح تقام على نحو فولكلوريّ عجيب لو فصّلتُ القولَ من سيرته لارتدَّ هذا الحديثُ كتاباً... وتَالِك أيّامٌ ذَواهِبُ فلا تَنءكَئِي، انشراحُ، كِلامَ ذكرياتها البِيضِ!... وليس يسعني إلاّ أُنشِدَ مع الشاعر العربيّ القديم، تَحءناناً وتَذءكاراً، لا تَذءرافاً للدموع مِدءراراً:
يا ليتَ أيّامَ الصِّبا رَوَاجِعَا!
؟ رحلة إلى المغرب لطلب العلم: ماذا ميّزَ هذه الرحلة؟
- قبل ذلك كنت سافرت إلى فرنسا لأعملَ في بعض معاملها أجيراً مُياوِماً لمدّة زهاءِ خمسة عشر شهراً، بعد أن حفظت القرآن، وختمته إحدى عشرة ختمةً ولم يكن الوالد يمتلك أكثر من قوت يوم أو أيّامٍ، فكان عليه مستحيلاً أن يُنفق على دراستي في القرويّين بفاس... وبعد أن كدحت في بعض معامل "لاستوري" بشماليّ فرنسا، أُبءتُ إلى الجزائر فيمَّمءتُ قَسَنءطِينةَ حيث تابعت دراستي الابتدائيّةَ في معهد ابن باديس. غير أنّ ذلك لم يدم إلاّ خمسةَ أشهر بعد أن أغلق الفرنسيّون هذا المعهد إلى الأبدِ، وقد كان أمر الثورة الجزائريّة استشرى، فتفرّق أساتذته وطلاّبه الذين بلغ عددهم في أكتوبر من سنة 1954م تسعمائة وثلاثةَ عشرَ، أشتاتاً.
وبعد قضاء ربيعٍ وصيف في مسيردة تحت المضايقات الاستعماريّة الشديدة، سافرت في أكتوبر من سنة 1955م إلى مدينة فاس؛ حيث تسجّلت في جامعة القرويّين لولا أنّ مرضاً خطيراً أصابني فاضطَرّني إلى مغادرتها لدخول المستشفى، بعد أن تابعت فيها دروساً في النحو والفقه لم تستغرق إلاّ بضعة أسابيع. وقد أتاحتء لي هذه الرحلة أن أُصبِحَ طالباً يستمتع بكامل حرّيّته في إقامة المدرسة البوعنانيّة بالطالعة الكبرى بفاس، وقد كان فيها طلاّب، مغاربة وجزائريّون، اقتربتء أسنانهم من الخامسة والثلاثين فكانوا لا يبرحون هناك يُقيمون ويَعءدِنُون؛ ولكنّ الجوّ الاجتماعيّ فيها كان رائعاً على الفقرِ المدقع، وعلى الفاقة التي كانت تصاحب معظم ساكني المدرسة، بعد أن كنّا كابدءنا صرامة النظام بدار الطلبة بقسنطينة؛ حيث النومُ واليقظة فيها كانا يخضعان لنظام شبه عسكريّ... ولكنّ ذلك أتاح لي تحصيلاً كثيراً في شهور قِلاَئلَ.
؟ ما حكاية مرضك الخطير في المغرب؟
- كنت يوماً مع زميل من الطّلاّب الجزائريّين الذين كانوا يمثّلون قريباً من ثُلث عدد الطّلاّب في القرويين، وما هالني إلاّ أنّي أسءعُل سُعالاً شديداً متّصلاً، وإذا الدّم يخرج من حَنجرتي فيملأ فمي، فرافقني بعض الزملاء إلى طبيب فرنسيّ بمدينة فاس، بالحيّ الأوربيّ يومئذ، فأمر بإدخالي مستشفى دار الدَّبِيبَغِ فوراً حيث مضّيتُ فيه ثلاثة أشهر من العلاج المكثّف، منها شهرٌ كاملٌ لم أكنء أتناول فيه إلاّ العصير البارد، والحليب المثلّج، فقد أُصيبت رئتي اليسرى بما أُصيبتء، أي بالسّلّ،
ولعلّ ذلك كان عائداً إلى حرارة النيران التي تعرّضت لها أثناء العمل في أحدِ معامل الزنك بفرنسا وأنا لا أزال يافع الشباب، أو إلى الرّطوبة والتفريط اللذين تعرّضت لهما في قسنطينة وفاس حيث كانت الغرفة، أو ما يمكن أن نطلق عليه غرفة، (إذ الإطلاق الصحيح هو المغارة المظلمة): تقع تحت مجرَى نهر فاس، فكانت الرّطوبة العالية تمتصّنا قبل أن نمتصّها، وقد كنّا خمسة أو ستّة في تلك المغارة الضّيّقة، يضاف إلى ذلك سوء التغذيَة وقلّة النظافة وغياب أدنى معايير الشروط الصحيّة، فكان كلُّ ذلك، نتيجةَ ذلك!... ثم تابعت العلاجَ خارج المستشفَى، بابتلاع أدوية معيّنة بانتظام، لمدّة تقترب من تسعة شهورٍ في مدينة وَجءدَةَ المغربيّة. وكم أنا ممتنّ للمغرب الشقيق، شاعرٌ بأنّ فضله عليّ عظيمٌ،
وأنّ هذا الفضل يغمرني من سائر أقطاري؛ إذء لولا لطءفُ اللّه، والرعاية الصحية المكثّفة التي شملتني بين ربوعه لكنت انتهيت إلى النهاية المحتومة...
أول دكتوراه:
؟ ماذا يعني لك هذا التاريخ: 7مارس 1970م؟ وهذا المكان: جامعة الجزائر؟
- شاءت المصادفة التاريخيّة أن أكون أوّل طالبٍ يناقش دكتوراه الطور الثالث في جامعة الجزائر، في الآداب، على عهد الاستقلال، وهي أوّل درجة علميّة تمنحها كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة فيها طالباً باحثاً باللّغة العربيّة، وذلك في التاريخ الذي تفضلءتِ بالإيماءة إليه. وبالمناسبة أقدّم عظيم الشكر وأعبّر عن أصدق العرفان لأستاذي المشرف يومئذ الدكتور إحسان النّص، بالإضافة إلى الدكتور مكّي، والدكتور شكري فيصل رحمه اللّه، وهؤلاء هم الذين تشكّلتء منهم لجنة المناقشة العلميّة.
حياة خاصّة
؟ كيف أسهمتء أسرتُك في استقرارك كباحث وناقد وروائيّ؟
- وعلى الرغم من أنّ أسرتي لم أشءكُ من مضايقتها قطّ، إلاّ أنّي مررت بمراحلَ في غاية الضيق، فكنت أكتب في القاعة الضّيّقة المخصَّصةِ لسهرة الأسرة، فكانت هي تتفرّج على برامج التلفزة، وكنت أنا أقبع في زاوية منها فأغطّي نفسي بالكتب بأن أبنِيَ من حولي جداراً عجيباً بمجلّداتها، ثمّ أحاول أن أكتب أو أقرأ في خضمّ تلك السوق التي تعَجُّ بالأصوات عجيجاً، وربما كنت أكتب أثناء القوائل وقد اجتمع في تلك البقعة العجيبة نفَرٌ من الأقارب فيَقِيلون فكنت أسمع لشخيرهم الناشز أصواتاً متقاطعة متجاوبةً لو حكيت من طرائفها لأضحكتُ أشدّ النّاس عبوساً!
وقد ظَلءتُ أكتب في هذه الظروف العصيبة قريباً من عشرين عاماً إلى أن استطعت أن أتفرّد في بيتٍ جديد، أرحبَ نسبيّاً من السابق، بغرفة ضيّقة اتّذتُها لي مكتبة خالصةً لي لا يشاركني فيها المتفرّجون ولا الءمُقَيِّلون!... قبل أن يفتح اللّه بالبيت اللاّئق الذي أقيم فيه الآن...
لقد وهَبَني اللّه زوجةً صالحة متفانية في خدمة زوجها وأبنائها، كما وُهِبتُ أطفالاً مهذّبين قلّما يتهارشون فيضرّمون نيران الحروب في البيت، بل إنّ كلاً منهم تراه يتّخذ له شأناً يُغءنِيه... ولقد يعني ذلك كلّه أنّي محظوظ مع أفراد أسرتي... فسلوكهم الصالح ظاهرني على الاستقرار النفسيّ الذي هو شرط مركزيّ للكاتب كي يُبدع...
؟ ما الذي يجعلك تحبّ الحياة وتُقءبل عليها بشغف؟
- إنّي أتصوّر أنّ الذي لا يحبّ الحياة، يرفض مشيئة اللّه التي جعلتءه يحيا في زمن معيّن، ومكان معيّن، للنهوض بصالح الأعمال من أجل الدّنيا والآخرة معاً، وبشكلٍ متوازٍ، فيعمل حتّى كأنّه يعيش أبداً، ويعبد اللّه حتّى كأنّه يموت غداً؛ بل أحسب الذي لا يحبّ الحياة لا يحبّ الموتَ أيضاً، أي أنّه يرفض وجوده الراهن والبَعديَّ فيشقى شقاءً قبيحاً.
إنّي لا أتهافت على التلذّذ بكلّ لذّات الحياة، بل أجتزئ بالبريء والنّقيّ والحلال منها، فأوزّع وقتي بين القراءة والكتابة وشمّ الهواء النقيّ ما استطعت، وكثيراً ما أنصرف عن الكتابة إلى مشاهدة مقابلة في كرة القدم الأوربيّة فأشاهد عالماً آخرَ غير عالمنا... وإذا كان صَدِيقِي قلِيلِينَ فذلك لا يعني أنّي لا أقضّي بعض الأوقات القصيرة مع بعض الزملاء الذين أرتاح لهم ويرتاحون لي في الجامعة فنملأ السّاحَ تنكيتاً وإِحءماضاً...
إنّ الحياة إذا لم نرطِّبء خشونتها بالابتسامة، وإذا لم نليِّنء قساوتَها بالنكتة الحلوة، فإنّها تغتدي ثقيلة رتيبة، فنفقد منها أجمل ما فيها فنشقَى شقاءً بعيداً!...
؟ ما هو البيت الشعر ي الذي ينطبق على مرحلة من مراحل حياتك؟
- لقد وُفِّقءتُ إلى رفءعِ شعارٍ أعمل به، دون تعويل على بيت شعر، ولا على حكمة سائرة معيّنة، وحدَهما، وذلك على الرغم من أنّي أفدءت من ذلك كثيراً، وكان شعاري: من الزاوية إلى السوربون! فقد تعلّمت الفرنسيّة بعد سنّ الثامنة عشرة حتّى أصبحت أكتب بها وأبحث، وقدّمت أطروحتي إلى السوربون في سبعمائة صفحة باللّغة الفرنسيّة، ونُوقِشتُ بها أمام أندري ميكائيل الءمُشءرف على الأطروحة، ومحمد أركون رئيس لجنة المناقشة، وثلاثةٍ آخرين...
غير أنّني أُعجب كثيراً ببيت أبي ذؤيب الهذليّ الشهير:
والنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتَها
وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنعُ
؟ باختصار: مرّة أخرى: مَن هو عبد الملك مرتاض؟ وما ذا قدّم إلى الثقافة والأدب العربيّين من خلال زهاء خمسين كتاباً صدرتء له حتّى الآن في أهمّ العواصم العربيّة منها الرياض؟
- عبد الملك مرتاض كاتب يستهويه الخوضُ في المعرفة الموسوعيّة بحيث لا يريد أن يحصر اهتمامه في زاوية معيّنة من التخصّص الثقافيّ والأدبيّ الضّيّقينِ، فالعلم ليس له حدود، والمعرفة لا ينبغي أن يكون دونها الحواجز؛ ولذلك تناول قضايا ثقافيّةً وحضاريّة وإنسانيّة وإسلاميّة كثيرة، من خلال خمسين كتاباً ظهرت له حتّى، ومئات الدراسات، وآلاف المقالات الصحفيّة المنتشورة في الصحف الجزائريّة، وأكثرها في صحف الخليج العربي مثل "الخليج" الإماراتيّة، والراية القطريّة، وعكاظ والرياض السعوديّتين... فقد كتب في القرآن الكريم (نظام الخطاب القرآنيّ)؛ وفي السيرة النبويّة (طلائع النور)؛ وفي الفكر الإسلاميّ والنهضة (الإسلام والقضايا المعاصرة)؛ وفي الشعر الجاهليّ (السبع المعلّقات- تحليل أنتروبولوجي)؛ وفي فنّ المقامات؛ والقصّة في الأدب العربيّ القديم؛ والميثيولوجيا عند العرب؛ وألف ليلة وليلة؛ والقصّة القصيرة؛ والأدب الشعبيّ (الأمثال، والألغاز، والشعر النبطيّ، والشعر الشعبيّ، والحكاية الشعبيّة، ونظرية الثقافة الشفويّة)، ونظرية الرواية، ونظريّة النقد، ونظريّة الشعر، ونظريّة البلاغة، ونظريّة القراءة، ونظريّة الكتابة (الكتابة من موقع العدَم)، بالإضافة إلى أنه كتب سبعَ رواياتٍ، وسيرةً ذاتية، ومجموعة قصصيّة. كما كتب زهاء عشرة أعمال عن الأدب الجزائريّ شعراً وقصّة... ولم يعدَم، أثناء ذلك، أن تناول نصوصاً شعريّة فأخرج فيها كتباً حلّل فيها تلك النصوصَ لشعراء من الجزائر، وتونس، والعراق، والكويت، واليمن، والسعوديّة، وأخيراً الإمارات العربيّة المتحدة...
وهو حاصل على شهادة الليسانس في الآداب من جامعة الرباط، ودكتوراه الطور الأوّل في الآداب من جامعة الجزائر، ودكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية من جامعة السوربون الثالثة بباريس (كُتبت الأطروحة وقُدِّمت باللغة الفرنسيّة). وهو أستاذ كرسيّ بجامعة وهران، وهو أشرف ويشرف على أكثر من مائة أطروحة جامعيّة (ماجستير ودكتوراه). وقد كان عميداً لمعهد اللّغة العربيّة وآدابها بالجامعة نفسِها، ثمّ أصبح وكيلَ هذه الجامعة نفسِها أيضاً، قبل أن يُصبح رئيساً للمجلس الأعلى للغة العربيّة برئاسة الجمهوريّة الجزائريّة (قبل التّنحيَة)، وهو منصب بدرجة وزير. وهو عضو المجلس الإسلاميّ الأعلى الواقع تحت وصاية رئاسة الجمهوريّة، وهو منصب دستوريّ. وهو عضو في جملة من الهيئات الثقافيّة والعلميّة العربيّة منها أنّه كان عضوَ مجلسِ الإدارة في مؤسسة الفكر العربيّ ببيروت، وهو عضو مراسل لمجمع اللغة العربيّة بدمشق، وعضو المجمع الثقافيّ العربيّ ببيروت، وعضو هيئات تحرير جملة من المجلات الأدبيّة في الجزائر والمشرق والمغرب... وقد أسّس في الجزائر ثلاثَ مجلاتٍ: تجليات الحداثة، ودراسات جزائريّة، ومجلّة اللغة العربيّة...
العربي المنكسر:
؟ عرف الإبداع السرديّ تطوّراً مستمرّاً لصورة الإنسان في العمل الإبداعيّ ابتداءً من البطل الأسطوريّ، ومروراً بالبطل المنكسر، ووصولاً إلى الشخصيّة العاديّة: أيّ الأبطال أصدقُ لعكس صورة الإنسان العربيّ؟
- كان البطلُ الأسطوريّ هو السائدَ في الأعمال الملحميّة مثل الإلياذة والأوديسا وغيرهما من الأعمال الأدبيّة السرديّة الكبيرة عبر التاريخ الأدبيّ للإنسانيّة، وكان البطلُ في تلك الأعمال يمثّل جلال القوة، وجمال الحبّ، وقيم التضحية من أجل بلوغ غاية في الحياة وتحقيقها. وقد وُجِد مفهوم "البطل الأسطوريّ" في الأدب العربيّ الشعبيّ، فعليّ بن أبي طالب، رضي اللّه عنه، يقتل الغول ذات السبعة الرؤوس في وداي السيسبان، ويهبط إلى أعماق الأرض ليقتل الجانّ من الأشرار، كما أنّ الأدب الشعبيّ عرف أطرافاً من ذلك في ألف ليلة وليلة، وسيرة فيروز شاه، وسيف بن ذي يزن، وعنترة بن شدّاد وغير هؤلاء، لأنّ الذهنيّة الشعبيّة العربيّة تمجّد البطولة، وتحمَد الشجاعة والشجعان فتضخّم من سِيَرهم، وتُعلي من شأنهم حتّى ترقَى إلى ما فوق قدرة الإنسان العاديّ، أي أنّها تجعلهم أبطالاً عِظاماً، لا مجرّد أشخاص بسطاء، أو عاديّين. وإذا كانت الرواية العربيّة بخاصّة، بدأتء تجنح إلى التعامل مع الشخصيّة، لا مع البطل، في الأعمال السرديّة ببساطة الإنسان وعجزه وقصوره، وضعفه وهوانه، فإنّ ذلك يمثّل حقيقة الإنسان العربيّ الذي لم يعد يغامر كما كان أجداده يفعلون، فأجداد ساروا على أرجلهم إلى كابل، وإلى بخارى، وإلى الأندلس، وخاضوا أمواج البحار على أعواد بدائيّة لينشروا دين اللّه، وليفتحوا البلدان وراء البلدان، وليقوّضوا العروش ويُزيلوا الدول، فذلك يعني أنّهم قوم كانوا يكتبون التاريخ، وكانوا يهءوَوءن المغامرةَ. وتلك سيرة الأمم العظيمة. أمّا اليوم فالعربيّ لم يعد قادراً على فعءل شيء يذكر، فهو يستهلك حضارة غيره، وهو قد يخاف أن يخرج إلى حديقته إذا جَنَّ عليه اللّيل!... وسبحان مغيّرِ الأحوال بين سِيَر الأجداد والأحفاد!
وإذن، فتصوير الشخصيّة العربيّة على أبسط ما يكون شأناً، وأضعف حالاً، هو الذي قد يكون أقرب إلى صدق الكتابة وواقعيّتها.
؟ ماذا تقول للروائيّ العربيّ؟
- بعد أن تُوّجت الرواية العربيّة بجائزة نوبل ممثَّلَةً في الروائيّ نجيب محفوظ، فقد أثبتت أنّها ذات مستوىً عالميّ، وأنّ الروائيّين العرب في كثير منهم، هم روائيّون كبار، وأنّ أعمالهم هي إسهام جادّ ولافِتٌ في تطوير الرواية العالميّة بشكلَيءها التقليديّ والجديد معاً... وإذا كانت الرواية العربيّة لم تنلء إلاّ جائزة عالميّة واحدة، فذلك لا يعني أنّها قاصرة أو ذات مستوىً أقلّ من المستوى الفنّيّ الذي يطبع الرواية في العالم؛ وإنّما يعود ذلك إلى أنّ هذه الجوائز العالميّة أصبحتء سياسيّة أكثر منها إبداعيّة جماليّة، ممّا يجعل لجان التحكيم أن لا تلتفتَ إلى الكتّاب الروائيّين المنتمين إلى دول ضعيفة ومتخلّفة كالدول العربيّة التي كتّابُها هم، في الحقيقة، في مستوى أيّ كاتب عالميّ، لأنّ الأدب ليس تكنولوجيا، وإنّما هو موهبة يُوهَبُها الكاتبُ هنا وهناك سواء، فليس يحتاج الروائيّ إلاّ أن يكون قارئاً جيداً للتراث الروائيّ ومُدءمِناً إيّاهُ، ثمّ إلى خيال وموهبة، وقلم وقرطاس... على عكس الباحث في شؤون العلم وقضايا المعرفة فإنّه يحتاج إلى تحكّم عالٍ في النظريّة، وفي أدوات المختبر وتجهيزاته، كما إلى فريق عمل متميّز متمكّنٍ من مشروع بحثه ينتمي إليه...
وإذن، فليس لي إلاّ أن أخاطب زملائي الروائيّين العربَ أنِ امضُوا على ما أنتم عليه، فأنتم في الطريق السَّوِيّ، وأنتم فيما تتناولون من الموضوعات الاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانيّة الجديدة التي لا يجدها الروائيّ الأوربيّ والأمريكيّ لاستنفاد الموضوعات لديهم لكثرة ما كتبوا: أرصن تناوُلاً، وألصقُ بمجتمعاتكم صدقاً... وقد كنت قرأت يوماً أنّ رواية فرنسيّة سافرتء إلى بلدٍ في إفريقيا لكي تعثر على موضوع جديد تتخذه مَأَدَّةً لروايتها الجديدة... ولكنء هيهات! إنّ الذي يكتب عن مجتمع كتابةً صادقة وواعية لا بدّ من أن يكون منتمياً إلى ذلك المجتمع لَحّاً، يشرب من مائه، ويتنفّس من هوائه... وإلاّ ظلّت تلك الكتابةُ تصف أحوال المجتمع الذي تكتب عنه من الخارج لا من الدّاخل...
؟ أمنيّة تودّ أن تتحقّق... وهل بقي من أحلامك شيءٌ لَمّا يتحقّق، فعءلاً: نقداً وإبداعاً؟
- الءحُلم واسعٌ شاسع، والطُّموحُ كبير غيرُ محدودٍ؛ ولكن ما أُنجزَ منهما ضئيل صغير، وما تحقَّقَ منهما نَزءرٌ قليل. كان عليَّ أن أعلُوَ القمّةَ فظَلءتُ قابعاً في الحضيض. وكان عليّ أن أُلِمَّ بأهمّ الثقافات الإنسانيّة الكبيرة في لغاتها الأصليّة، فلم أستطع أن أحقّق شيئاً من ذلك إلاّ في العربيّة والفرنسيّة، وبدرجة أدنى في بعض اللغات الأخرى الأوربيّة والشرقيّة... وكان عليّ أن أحفَظ العلوم ولا أنساها فأهُذَّها هَذّاً، غير أنّي كثيراً ما أَذهَل عمّا أتعلّم، وأنسَى ما أحفَظُ، فأُضطرّ إلى مراجعته كلّ حين عوضَ الءمُضيّ في طلب علم جديد...
وكنت أحلم بأن يُصبح الأدب العربيّ المعاصر كالأدبَيءن العالميّين الكبيرين: الفرنسيّ والإنجليزيّ، بيد أنّ هذا الحلم لم يتحقّق، وظلّ هذا الأدب قابعاً في مكانه لا يَريم! وكنت أحلم بأن تغتديَ الجامعاتُ العربيّة في الوطن العربيّ مراكزَ إشعاعٍ معرفيّ وثقافيّ وحضاريّ فتزدهر المعرفة فيها في أعلى مستوياتها، وأرقى درجاتها، فتخرّج مثل هذه الجامعات فلاسفةً مفكّرين، ونقاداً عالميّين، ومهندسين مخترعين، وباحثين مُؤءتَلِقين، غير أنّ ذلك لم يحدُث، بكلّ حزن، إلى اليوم، أو لم يحدث إلاّ لماماً...
ثمّ... كنت أحلم، ولا أَزالُهُ، بأن يُصبح العربُ أمّةً كبيرة، كما كانوا، يمتلكون قوّة العلم، وقوّة الاقتصاد، وقوّة السلاح، ومن ثَمّ قوّة السياسة، بحيث يهابهم العدوّ، ويحترمهم الصديق... ولو كانوا كذلك لكانت القدس ظلّت عربيّة، وهي اليوم، بكلّ حزن، تحت الاحتلال الصهيونيّ مثلها مثل كلّ التراب الفلسطينيّ، والتراب العراقيّ، ونخشى أن يحدث للعرب ما هو أسوأ وأنءكَأُ!... ولو جاز للمتشائم أن يقيس حاضرُ العرب على ماضيهم القريب، ثم يقيس مستقبلُهم على حاضرهم الراهن، لَمَا كان قياسُه فاسداً! كنت أحلم بأن تصبح العربيّة اللّغة الأولى في العالم، كما كانت طَوال ثمانيةِ قرونٍ من عمرها على الأقلّ، فهل تتحقّق هذه الأمنيّة ولو في المستقبل البعيد؟ أسأل اللّه أن يحدُثَ ذلك...؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.