موضوع هذا البحث هو دور الأرشيف والذاكرة في الإنتاج الثقافي، وصناعة صورة الفنان، واستحضار نموذج الفنان الكبير عبداللطيف الكويتي تمهيداً لتحليل نموذج كبير آخر هو طلال مداح، هذا جزؤها الثامن. عبدالوهاب حرر خرافة "زرياب" من سردية "المغني الساحر" وجدها في طلال مداح. حليات صوتية قادت عبدالوهاب إلى اكتشاف زرياب في الحجاز. ربما كان زرياب هارباً من بغداد. غير أن زرياب ونافع بن عبدالرحمن يشتركان في الأصل الأفريقي وحمل النغم الحجازي. القراءة النافعية نقلها تلميذان، قالون عيسى الزرقي والمصري ورش (عثمان بن سعيد) - هل كان قبطياً دخل الإسلام؟ - كذلك زرياب نقل معه ما تجمع في بغداد - هل تأثر بما تجمع فيها من فنون نبطية وخسروانية؟. لا بد من ذكر شهادة وردت في كتاب "محاضرات الأدباء" للراغب الأصفهاني (ت.1108) في فقرة "تحقيق القرآن والتغني به" هي شهادة أحد القراء الهيثم العلاف الذي قال: "قرأت عند المنصور فقال ما لكم أهل البصرة أقرأ البلاد؟ فقلت: إن أهل الحجاز قرأوا على النصب غناء العرب، وأهل الشام قرأوا على قراءة الرهبان، وأهل الكوفة قرأوا على قراءة النبط، والبصرة على الخسرواني غناء فارس". (الأصفهاني، 1960، ص: 437). تمثل هذه الشهادة في زمنها حال الجذور النغمية في فنون أداء كل منطقة عربية، وهي ممكنة التطابق في عصور لاحقة - مع مراعاة العامل الزمني والمكاني - إضافة إلى العامل الحضاري في صوره الأنثروبولوجية والإثنولوجية والأركيولوجية. غير أن عبدالوهاب في ملاحظته للتشابه بين أداء زرياب وطلال مداح للمجس الحجازي، أداء زرياب - بالطبع - هو تصور أسطوري لا مثال واقعياً له. غير أن سماعه إلى خصائص الغناء في النوبة الأندلسية أشبه عليه فأنطقته الذاكرة الأندلسية الحاملة رمزها الغنائي: زرياب أن يلقي باسمه في حنجرة طلال مداح. هو ذات التخيل الأسطوري عند الأخوين رحباني في مغناتهما السابقة الذكر غير أن شهادة العلاف تعيننا على كشف جذور فنون الأداء التي شكل القواعد والخصائص لفن الغناء كذلك لفن الترتيل. إن غناء النُّصُب هو الذي تسرب إلى فن الترتيل الحجازي ممثلاً في القراءة النافعية التي تناقلها تلامذته إلى شمال أفريقيا بمساعدة تبني المذهب المالكي لها. بالطبع لا يمكن لشهادة العلاف إلا أن تكون أرشيفاً ظنياً غير أن تطور فنون الأداء محكوم بقوانين خاصة تتصل بالثقافة نفسها ثم بالحضارة بوصفها منجزاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. ** مقاطع فصل من كتاب جديد بعنوان "زرياب الآخر" يصدر قريباً عن منشورات أحمد الواصل ومنشورات ضفاف.