موضوع هذا البحث دور الأرشيف والذاكرة في الإنتاج الثقافي، وصناعة صورة الفنان، واستحضر نموذج الفنان الكبير عبداللطيف الكويتي تمهيداً لتحليل نموذج كبير آخر هو طلال مداح. هذا جزؤها الثاني. غير أن ما يحسب له ذلك الأداء المسرحي الذي يعتمد أسلوباً خاصاً في تقطيع الجمل الغنائية بشكل حواري، وتشديد النبر ورخاوته بين المقاطع وسواها، والتمكن العجيب في يسر التنقل بين سكك السلالم والأجناس النغمية تحت قيود الإيقاع الصارمة، وهو ما منحه التميز والفرادة وجعله ينقلب على تواتر "الرواة أو الناقلين فلم يضيفوا الجديد" حسب تحقيب يوسف دوخي لمدارس الغناء الكويتي بين القرن التاسع عشر والعشرين، وقد نسب عبد اللطيف الكويتي إلى المدرسة الثالثة (المدارس والقوالب الغنائية بالكويت، يوسف دوخي، إذاعة مجلس التعاون الخليجي، 1985). وبرغم أنه أشار بالإضافة إلى عبد اللطيف إلى اسم محمود الكويتي (اسمه: محمود عبد الرزاق النقّي)، وميّز عبدالله فضالة (1902-1967) عنهما بوصفه عازفاً ومغنياً وشاعراً ومتخصصاً في فنون عدة غير أن كليهما –أي محمود وفضالة- كانا مغنيين وملحنين ملتزمين أصولياً بالفنون الحضرية والشعبية، فرغم الألحان التي قدمها بصورة مدنية محمود الكويتي ومنها لحن الشهير من فن السامري"البوشية" غير أنه ظل ملحناً محدوداً وأما فضالة الذي برع في أداء فنون عدة غير أن ما ميزه التمكن من غناء فنون البادية مثل جرة الربابة وظل شاعراً فريداً في نصوص عدة من السامري والهجيني بالإضافة إلى أغنيات وضعها في زمنه. ولكن كما أشرت تفوق عبداللطيف الكويتي في رسم خريطة أداء انعكست على كثير من المغنين، مثل: شادي الخليج وغريد الشاطئ- الذين ظهروا ضمن إطار الأغنية الكويتية ما بعد عام 1959 حيث أطلق شرارة اختبار الأنماط والقوالب والأشكال المغني والملحن سعود الراشد إلا أنه قصر عما استطاع أن يكمله أبناء عصرهم وهم حمد الرجيب وأحمد باقر ويوسف دوخي. استطاع عبداللطيف الكويتي أن يؤسس لهجة غنائية رسمت معالم الغناء في مطلع القرن العشرين حتى منتصفه وجاء طلال مداح ليرسم معالم المنتصف الثاني منه برغم أن عبداللطيف الكويتي يمثل الحنجرة النجدية (ينتمي إلى أسرة العبيد النجدية من الزلفي وسط الجزيرة العربية) التي تعرضت لكل مكتسبات الغناء الحضاري في شرق الجزيرة العربية الكويت والبحرين والعراق بينما يمثل طلال مداح (المولود لأب حضرمي مهاجر ووالدة مصرية) الحنجرة الحجازية التي تعرضت لمكتسبات الغناء الحضاري في غرب الجزيرة العربية في الحجاز واليمن ومصر. *مقاطع فصل من كتاب جديد بعنوان "زرياب الآخر" يصدر قريباً عن منشورات أحمد الواصل ومنشورات ضفاف.