رحل عن دنيانا قبل أيام، وتحديدًا في أول أيام هذا الشهر، الشاعر الكبير ناصر بن محمد السياري -رحمه الله-، وهو أحد الشعراء المبدعين أصحاب الآراء النقدية الرائعة في الشعر وشؤونه، وسبق أن أشرت لبعض تلك الآراء في مقالات سابقة لاسيما رأيه المنصف لجيل الشعراء الشباب الذين صرّح بأنه يتابعهم ويُعجب بالمبدعين منهم، وقد نشأ السياري قريبًا من الشعر والشعراء في مجلس والده الشاعر الكبير محمد السياري العامر بالكرم والشعر، والذي كان وما زال ملتقىً للشعراء ورواة ومحبي الشعر. ويتضح لنا حجم وعي السياري بمفهوم "الشعر" بتأمل العديد من القصائد التي يتمحور اهتمامه فيها حول نظرته للشعر ونقده لبعض الممارسات الشعرية الخاطئة، كالأبيات التالية التي ينتقد فيها الإساءة للشعر تحت مسمى "التحديث"، وهي من قصيدة اسمها (الشعر كايد) يقول فيها: إمّا حصل صوره ووزنٍ ومعنى ترى قصيدك ينقدونه هل الذوق ياللي تخالف بالهذر مجتمعنا تسلب وتكسر وأنت بالقيل مسبوق تقول: حنّا بالقوافي برعنا وبضاعتك ما تربحك لي جت السوق وين المحرر ياقف اليوم معنا ميزان عدلٍ فاهمٍ كل منطوق أما على كل الحقايق طلعنا ضاع الهدف ما بين عاتق ومعتوق حنّا عن الشعر الحديث ارتفعنا ليصار مستهجن وعايب ومسروق لو الشعر هيّن جلبنا وبعنا مير الشعر كايد له أحكام وحقوق وفي قصيدة أخرى ذات نبرة أكثر حدة وسخرية ينتقد الشاعر رحمه الله ابتذال الشعر من قِبل البعض، والتعامل معه كسلعة تُباع وتُشرى، فيقول: صار القصيد يباع في كل دكان بالمكتبه والفرن هو والبقاله من لوّن الصوره يقلّد لويحان وما صار في باله من الهذر قاله ليته قرا قصيد نمر بن عدوان كوده يعرف البدع هو والجزاله الشعر هو شعر السديري وراكان وشعر النصافي لي تنهّت وشاله بين الصفوف يشيل زينات الألحان لي صار مرشد عند صفه قباله وابن شريم اللي يسمي سليمان إلى ورد ما هيب تقصر حباله محمد السديري -رحمه الله علي المفضي وكان يرحمه الله يرى في شعر الأمير الشاعر محمد الأحمد السديري نموذجًا أو مثالاً يستحق الاحتذاء والإعجاب، وقد تحدث عن إشادة السديري بقصيدة له أبدعها الشاعر على البحر الهلالي في بداية تجربته الشعرية، أما مواصفات القصيدة المميزة فيشرحه في قصيدة جميلة يقول فيها: شعر الرجل يا أهل الشعر من شعوره لا صار رجلٍ مرهف الذوق حسّاس يعطيك عما لاج بالقلب صوره ينظم مع عقود الذهب غالي الماس أعجاز شعره تنسجم مع صدوره ما تختلف ما بين وزنٍ ومقياس لا شافها المحزون يظهر سروره يسعد بلحظات الفرح عقب الأتعاس من قاس غباته سبح في بحوره يعوم ما قد صار مكتوم الأنفاس لا صار فاهم ما يتيه بغروره ما يترك الواقع ويرجح مع الياس يقطف من أبكار المعاني زهوره طريّة الأشكال ما هيب يباس وتتنوع مواضيع القصيدة في تجربة ناصر السياري لتشمل معظم أغراض الشعر، وإن كان غرض الحكمة من أكثر الأغراض التي تحظى بعناية الشاعر، ومن قصائد الحكمة قصيدة يقول فيها: طرات الرجل عدوانه تهابه ولا يقفل عن الضيفان بابه يرحّب بالبعيد وبالقريّب وترى من شاف له شيءٍ حكابه يقوله واحدٍ فكّر وجرّب يعرف اللي ذِكر بأول شبابه كثير الناس ليقلته تفضّل تعذّر لك وكشّر لك بنابه يقول إنّك تبذر في حلالك يبي يقنعك عن سبّة غيابه يحسّن شاربه كنّه مطوع ومعه مسواك ويقصّر ثيابه عسى جنسه قليلٍ فالجماعه بليدٍ في القرايه والكتابه عساه فدًا لنقال الخساير عريب الخال ظفرٍ يلتجى به من قصائده في النصح والحكمة أيضًا قصيدة رائعة تحدث فيها عن مواضيع شتى، ويقول في بعض أبياتها: يا سعود ما في رفقة النذل لك زود ليقاصرك في نجد هاجر لحايل رزقك على اللي للمخاليق معبود علاّم ما تخفي القلوب الغلايل لا تترك الواجب ولا تترك الجود ما تملك من المال لو كثر زايل يا بِعد فرق الثوم عن ريحة العود الفرق واضح راسمته الدلايل ليا أوحيت لك علمٍ يجي منه منقود جنّب عن النمّام هزل الفعايل قد قالوا المقرود يبلى بمقرود مهوب باع مدوّر الشر طايل إلى رحل وأقفى فلا هو بمفقود ليصار ميزانه عن العدل مايل ورغم غزارة الإنتاج الشعري للشاعر ناصر بن محمد السياري وتميز مستواه إلا أن ضيق المساحة يجبرني على أن أختم بأبيات رائعة من قصيدة يعبر فيها عن حبه لبلاده وأهلها ويوجه الخطاب فيها لابنه "صقر": قلبي يحب المملكة هي وأهلها حكامها مع شعبها كبار وصار جعل الحيا يسقي الوعر مع سهلها نشوف نبت العشب غاشيه نوّار ترتع به البل يا صقر مع فحلها ياما حلى قدامها شبّة النار ولا همنا ناسٍ تزايد جهلها حنّا نعشي الضيف ونكرّم الجار والله يجازي كل نفس بعملها هو الذي يعلم خفيّات الأسرار أود الإشارة أخيرًا إلى أن هناك الكثير من السمات المميزة في شخصية الشاعر الكبير ناصر بن محمد السياري، من بينها تواضعه الجم وابتعاده عن النرجسية الصارخة التي تتملك كثير من الشعراء، وأنصح بمشاهدة الحلقات المميزة التي تحدث فيها الشاعر في برنامج (رحلة في وجدان شاعر) الذي يعده ويقدمه الشاعر والإعلامي علي المفضي، وذلك لمعرفة المزيد عن شخصية ناصر السياري وجوانب الإبداع لديه، وهذه السطور القليلة لا تكفي للتعبير لهذا المبدع رحمه الله.