الشعر في أعماقه تعبير جميل عن أشواق الإنسان، تخرج من الداخل إلي الخارج، يزفها الشعر بأجمل الصور وأبهى المظاهر، وبهذا يتطهر الشاعر من عواطفه المكبوتة، ويتنفس من ضغط أشواقه المكتومة، ويحس أنه عبّر عن نفسه فأحسن التعبير، وصوّر مشاعره فأجاد التصوير، وأشرك الناس معه فيما يحس به، ويشتاق إليه، ويشكو منه، فالبوح الشاعري فنٌ راقٍ جداً، يطرب صاحبه، ويعجب منشده وكاتبه، ويمنح تلك الأشواق النبيلة بقاءً طويلاً يمنحه هو بعض الرضا والسلوان.. ولا يوجد إنسان بلا أشواق.. في أعمال كل إنسان أشواق روحية.. وتطلعات إلى المعالي.. ومواجد على الأحباب.. ورغبة عارمة في تصوير الجمال.. وتفاعل روحي مع تعامل الكثير من الناس.. وخاصة الأعزاء والأقارب والأحباب.. فهو يصف حنانه على طفله الصغير.. واحترامه لأمه ووالده الكبير.. وعشقه لمن خطفت قلبه.. ورحمته لمن آلمه منظره وضعفه.. ورثاؤه لمن مات.. وتذكره لمن غاب.. حياة الشاعر تتجاوب مع الأحداث ومع الأشواق الداخلية تجاوب الأرض مع المطر.. والعين مع النظر.. وتتفاعل مع المواقف المؤثرة تفاعل الرياح مع أغصان الشجر.. وإيقاع الندى على أوراق الزهر.. ناهيك عن تفاعله مع جماعته وأمته.. وما يريد لها من مدارج العلا.. وما يهز وجدانه من تاريخها المضيء بأسفار الأمجاد، ثم ما يشجيه في حاضرها من تهاون الرجال وتهاوي الآمال ومقارنته المؤلمة بين الماضي والحاضر. الشاعر إنسان حساس جداً، تنعكس على وجدانه الأحداث المؤثرة بشكل يحرثه من الأعماق، ويخرج منه الدُّرر، كما أنه أكثر تأثراً بالجمال وإعجاباً به وتذوقاً له وتصوراً لأبعاده وما يعدُ به من سعادة بلا مدى، يردف ذلك كله خيال سابح كبساط الريح، وموهبة عميقة قادرة على تجسيد المشاعر الداخلية في صور باقية على مرِّ الزمان. يقول أبو الطيب المتنبي مصوراً لنا ولنفسه قبلنا أشواقه التي تهز أعماقه: أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونه وأُطارد وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد ويقول الأمير فيصل بن تركي آل سعود: مفهوم قلبي للرعابيب ما اشتاق أيضاً ولا همّه لجمع الدنانير لكن من ربع عليها الردى ساق عقب الجمايل أنكروا نية الخير مفهوم قلبي للرعابيب ما اشتاق ايضا ولا همّه لجمع الدنانير طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ ولا لعبا مني، وذو الشيب يلعبُ فهنا (الشرهة) التي أثارت حفيظة الشاعر.. ونجد أن لفظة (أيضاً) ترد في شعره وهي هنا مناسبة، رغم أنها ليست لفظة شاعرة، ولكن رب كلمة حسنت في موطن، وقد وردت في شعر فصيح فكانت شاعرة في مكانها: رب ورقاء هتوف في الفصحى ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفاً ودهراً سالفاً فبكت حزناً فهاجت حزني فبكائي ربما أرقها وبكاها ربما أرقني ولقد تشكو فما أفهمها ولقد أشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضاً بالجوى تعرفني فأشواق الشاعر شجية نحو إلف ودهر سالف.. ويقول الكميت بن زيد: طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب ولم يلهني دار ولا رسم منزل ولم يتطربني بنان مخضب ولا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مرّ أعضب ولكن إلى أهل المكارم والنُّهى وخير بني حواء.. والخير يطلب وتتضح أشواق عبدالله بن دويرج أن يعمل المعروف الكثير بالأعزاء والأقارب: أدافع بحيلاتي زماني على الرجا ولا بد بعد الجدب يمشي شعيبها إلى شب في كبدي من الغم لاهب شربت العزا والصبر يبرد لهيبها محا الله نفس تدرك الجود والثنا ولا تبذل المعروف بأقرب قريبها وقريب منه قول عبدالصمد بن المعذل: إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني أرى صالح الأعمال لا استطيعها أرى خلة في إخوة وأقارب وذي رحم ماكان مثلي يضيعها فلو ساعدتني في المكارم قدرة لفاض عليهم بالنوال ربيعها