لا يعرف التاريخ أمة اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها، كما فعل المسلمون في عصور نهضتهم وازدهارهم، فقد كان في كل بيت مكتبة! " المستشرق الألماني آدم ميتز كانت المعارف قديماً مشوبة بالدجل والخرافات والاتباع الأعمى لعادات الآباء والمشي خلف خرافة الأساطير بعيداً عن الاعتماد على العقل والفكر والاستنباط الدقيق، إلى أن قدمت الحضارة الإسلامية أنموذجاً متكاملاً للعلم الحديث، مستوحى من العقل كما أنه يدعو إلى التدبر في الخلق والبحث عن المنفعة في شتى الأمور، وحين يأتي الإنصاف من غير المسلم؛ فإنه فعلاً سيتكلم عن الحقيقة التي لا تجامل ديناً ولا مذهباً ولا حتى طائفة أو شبهها! في كتابات المستشرقين نجد الشواهد الكثيرة على أن طرق العلم الحديث كانت من عواصم العرب، من بغداد المنصور ودمشق العثمانيين وقاهرة بيبرس وقرطبة الناصر، فحسبنا انا كنا مثالاً للكمال البشري كما يقول ليوبولد وايس : " بينما كنا مثالاً للهمجية لسنا نبالغ إذ قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه، لم يدشّن في مدن أوروبا، ولكن في المراكز الإسلامية في دمشقوبغداد والقاهرة وقرطبة، ونحن مدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم والفن والصناعة، وحسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري، بينما كنا مثالاً للهمجية "؛ إذن حُقّ لنا أن نعرف حضارتنا ونفخر بها، الحضارة التي قارعت الإغريق وطغت على فارس وعبرت أسوار البيزنطة عبر قفزات أبناء الصحراء؛ الذين قفزوا فوق كل تلك الأمم بسرعة وجيزة، تشهد لهم بذلك المستشرقة زيغريد هونكه إذ تقول عن العرب: "إن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها، لدرجة تجعلها أعظم من أن تقارن بغيرها!" ولو تأملنا بكيفية الإعجاز في حضارتنا لوجدناه بين أسطر القرآن ومافيه من نظريات ومناهج علمية وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم اجتماع وتهذيب خلق وموسوعة تاريخ. أصاب العرب بعد ذلك داء التقوقع على النفس في القرون الأربعة الأخيرة بعيداً عن المعرفة والعلوم والترجمات ومواكبة الأمم، حتى استغلت أوروبا هذا الجهل في أدبها فاحتالت علينا لتخفي عن الأنظار مآثرنا العلمية عليهم، ربما هذا كان نصيبنا من العجرفة والحقد الديني والغرور القومي، ولكنا سنعود.. ويشهد بذلك المستشرق رينان حيث كتب: "ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع المدنية من جديد؟ إن فترات الازدهار والانحدار مرت على جميع الأمم بما فيها أوروبا المتعجرفة !" نعم.. فنحن من أنعش العالم الغربي ومده بالعلوم التي سطرتها مكتباتنا وأنتجتها عقولنا، يقول المستشرق تومبسون: "إن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأثر شعوب غربيِّ أوروبا بالمعرفة العلمية العربية، وبسبب الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللاتينية لغة التعليم أنذاك"، غوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي الذي عمل في كل قارات العالم وعني بالحضارة العربية وكانت أحد أجمل مؤلفاته، كما يعتبر أيضاً أحد أهم فلاسفة الغرب الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية الإنسانية، يذكر في إحدى مؤلفاته أن الشرقيون هم من رفع المرأة من الدونية وآثار الحضارة السُفلى، فيقول: "ينظر الشرقيون إلى الأوروبيين الذين يُكرهون نساءهم على العمل كما ننظر إلى حصان أصيل، يستخدمه صاحبه في جرِّ عربة! فعمل المرأة عند الشرقيين هو تربية الأسرة، وأنا أشاطرهم رأيهم مشاطرة تامة، فالإسلام لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، خلافاً للاعتقاد الشائع "، ويضيف في كتابه "حضارة العرب" الذي يحتوي على جواهر نفيسة، فيقول : "لم يقتصر فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة على أنفسهم؛ فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، فهما مدينان لهم في تمدنهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم، فهم الذين هذّبوا - بتأثيرهم الخُلقي - البرابرة الصليبيين "، وعلى أية حال.. فالحق ما شهدت به الأعداء، ولم تكن شهادة الغرب في كتابات المستشرقين فحسب، بل ظلت تدرّس كتب ابن سينا والرازي في كليات الطب الأوروبية حتى القرن الثامن عشر، كما كان لمقدمة ابن خلدون أثر واضح في الدراسات التاريخية والاجتماعية، وكذلك كتب ابن رشد الفلسفية التي كانت تؤثر في نشر التيار العقلاني وحرية الفكر الأوروبي الحديث. إننا نحتاج أن نتعرف على حضارتنا في وقت كثرت فيه الأقاويل المحرضة ضد هذه الحضارة ومحاولات طمس معالمها وإنكار فضلها على العالم الإنساني، كما أن القصد هو لفت أنظار المسلمين والعرب إلى حقيقة هذه الحضارة التي أذهلت العالم بأسره، وأخيراً: "لو لم يظهر العرب على مسرح الأحداث، لتأخرت النهضة الأوروبية عدة قرون" * ميسيو ليبري