قبل أيام استلمت من صديقي الدكتور عصام بخاري رسالة بدأها بقوله: "السلام عليكم من بلاد الفايكنج وحورية البحر".. وكانت هذه الجملة كافية لأعرف أنه موجود حاليا في إحدى الدول الاسكندنافية (التي تشترك في تراث الفايكنج) وتحديداً في كوبنهاجن عاصمة الدنمارك كونها تملك تمثالاً مشهوراً لحورية بحر - أصبحت رغم صغرها معلماً سياحياً مهماً.. وأنا شخصياً لدّي ذكريات جميلة مع الدول الاسكندنافية التي تجولت فيها لأول مرة عام 1999.. أذكر أنني سكنت في كوبنهاجن في منزل سيدة عجوز تعرفت عليها من خلال كتيب خاص بتأجير الغرف الزائدة للسياح، ولا أخفي عليكم أنني أحببت هذه السيدة بسبب روحها المرحة ومعاملتي كأحد أفراد العائلة.. وأتذكر من كلامها سؤالين لم أفهم مغزاهما وقت سماعهما: - الأول، حين نبهتني بقولها "ألسّنا في كريستييانيا؟" - والثاني، حين أجابتني بتهكم "ألسنا أسعد شعوب الأرض!؟" .. التعبير الأول أتى حين سألتها عن أقرب باص يقف قرب المنزل فقالت: "في أول تقاطع بعد اجتياز الحدود".. وللوهلة الأولى ظننتها تعاني من خرف الشيخوخة فقلت هامساً خشية أن يسمعني أحد: "أسألك عن أقرب باص فتطلبين مني تجاوز الحدود".. ضحكت وقالت "ألسنا في كريستييانيا!؟".. حينها فقط فهمت قصدها!! فكريستييانيا منطقة في كوبنهاجن كانت حتى عام 1971 ثكنة عسكرية، وحين غادرها الجيش احتلها حوالي ألف شاب من الفنانين والهيبيز والعاطلين عن العمل - كانت مضيفتي من بينهم.. كانوا مهوسيين بالحرية والتمرد ويرفضون الخضوع لأي سلطة فأعلنوا كريستييانيا دولة مستقلة (ولرؤية لمحة من الحي أَدخِل في اليوتيوب كلمة christiania). ولسنوات عديدة كانت كريستييانيا مصدر قلق وصداع للسلطات المحلية فقررت في النهاية تركهم لحالهم.. ولكن الأحوال تغيرت اليوم؛ فقد كبر الشباب وغدوا أكثر هدوءاً وأسسوا عائلات وغدت كريستييانيا واحدة من أجمل أحياء كوبنهاجن - وإن كانت ماتزال تحتفظ بتفردها وغرابتها عن بقية أحياء المدينة. غير أن المصطلحات القديمة مازالت رائجة على ألسنة أهلها مثل إطلاق لقب "الحاكم" على عمدة الحي، وتسمية مابعد بوابة الحي بالحدود.. وهكذا حين ذكرتني بأننا في كريستييانيا فهمت فوراً أن الباص المنشود لا يتطلب أكثر من قطع الشارع المجاور - كون السيارات ممنوعة من دخول الحي!! بقي قولها الثاني "ألسنا أسعد شعوب الأرض".. ومناسبة هذا التعبير أتت حين ودعتها وأبديت إعجابي بروحها المرحة وابتسامتها الدائمة فقالت ألسنا أسعد شعوب الأرض.. ثم فهمت لاحقا أنها تلمح إلى دراسة (استعرضتها في مقال سابق بعنوان: مزاج العالم) تفيد بأن الدنمركيين هم أسعد شعوب الأرض - وظلوا في مركز عالمي متقدم رغم تبدل المراكز في السنوات التالية.. والحقيقة هي أن الدنمركيين ليسوا فقط أسعد شعب في العالم (كما صرّح معظم من شملهم الاستفتاء) بل ويتمتعون بدخل مادي مرتفع، ومتجانسون عرقيا، وموحدون مذهبيا، ولا يعانون من الجرائم أو العنصرية، ولهم رؤية موحدة لقضاياهم وقضايا العالم.. أضف لذلك أن المواطنين في الدنمارك يتمتعون بحرية سياسية وفردية كبيرة وخدمات اجتماعية وصحية راقية ولا يوجد بينهم تفاوت طبقي كبير - وهم في النهاية لا يحملون هّم الشيخوخة أو البطالة بفضل نظام التقاعد المجزي الذي يتمتعون به بعد سن الستين... باختصار ستتملكك الدهشة إن سمعت بعد ذلك من يدعي البؤس هناك... والحقيقة هي أن الدول الاسكندنافية عموماً تأتي في المراكز الأولى عالمياً -ليس فقط في قائمة السعادة- بل في سلم الرفاهية الاجتماعية وتجاوزت منذ القرن الثامن عشر تداعيات التشرذم السياسي، والتشدد الديني، والفساد المالي، والافتراق المذهبي التي أفرزت كل هذا البؤس الذي نراه اليوم في عالمنا العربي...