أحيانا يأخذني الاعتقاد إلى أن من بيننا من لا يروق له أن يرى الفرح على وجوه الناس، من يُصر على استخدام كل مفاتيح خزانات السأم والملل وكل ألوان العبوس ليرويهم بصديدها، وهم المرتوون من سيولها العارمة أصلا، وشلالاتها المتلاطمة التي تضخها على مدار الساعة نشرات الأخبار، وأحداث القتل والنحر وجز الرؤوس، وهدم المنازل على رؤوس ساكنيها في غير مكان من محيطنا في مختلف الاتجاهات. أشعر أن هنالك من يريد أن يحاصر الفرح والبسمة وأي شعور عذب، كما لو أنها شيء من الممنوعات التي يجب محاربتها، وتجنيد كل القوى لمسحها وإزالتها وقطع دابرها، كما لو كانت رجسا من عمل الشيطان، لا تليق بمن ينشد التمام. أشعر أن هنالك من يُسخر نفسه وثقافته وجهده للحيلولة دون أن تزهر بسمة على شفة، او تنبت وردة على محيا، او يورق شعور باسم على ثغر، وكأن هذه النفوس لا يرويها ولا يردعها عن الخطيئة سوى استحضار النكد، وحمل الكفن في راحة اليد، والإبقاء على جذوة الخوف من القادم.. أي قادم مشتعلة، ومتوقدة، حتى لا يؤخذ الناس بجريرة الفرح إلى مواطن الردى. إلى أين أخذتنا هذه الثقافة ومن يتبناها كمنهج تحصين في مواجهة الزلل؟ ألم تأخذنا إلى وضع شبابنا أمام خيارين بائسين، إما القبول بما يُصاغ لهم من برامج تحت عناوين الترفيه، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، لأنها لا تعبر عنهم، وإنما تعبر فقط عن رؤية الوكلاء الحصريين للسأم، وسدنة خزاناته الممتلئة؟ أو الخروج عن النص في أي مناسبة وكأنهم يريدون أن يقتصوا من مجتمعهم الذي صادر منهم حقهم في الفرح المباح، والتعبير عنه بطريقتهم، لا بتلك الطرق التي نخترعها لهم، ونمليها عليهم؟ ثم نطلب منهم أن يلتزموا بها، وإلا... ؟ أليس من الأجدى أن نجعل هؤلاء الشباب يصنعون ثقافتهم في الفرح بأنفسهم، وفي إطار المتفق عليه من الضوابط، دون أن نمليها عليهم، وكأنها واجبٌ مدرسي ثقيل؟ أليس من الأجدى أن نرد لهم حقهم الطبيعي كجيل مختلف له ثقافته، وله أدواته، وله لغة عصره، في أن يعبروا عن ذواتهم في مادة الفرح، ولو بالمشاركة على الأقل في رسم إطاراته العامة، عوضا عن أن نلزمهم بفهم سواهم من باب الوصاية؟ أليست هذه هي مبررات التمرد، والخروج عن النص؟ ثم أليست هذه الاستراتيجية الساذجة هي أحد الدوافع باتجاه المغامرة وركوب المخاطر أحيانا من قبل البعض، إما على سبيل لفت الأنظار، أو على سبيل التمرد على الخطوط مسبقة الصنع التي وضعناهم داخلها. قاعدة "وينشأ ناشىء الفتيان فينا.. على ما كان عوده أبوه"، وإن كانت تلائم تلك الأجيال التي ما كان يطرأ عليها التغيير إلا بمقدار ما يطرأ على لون ظهر سلحفاة هرمة، فإنها حتما لا تتماشى على الإطلاق مع هذه الأجيال التي تتحكم آلاف المصادر التقنية في تربيتها، بعد أن اقتحمت المنزل والمدرسة لتنهبهم من أحضان التربية التقليدية، بفتح كل الآفاق أمامهم، واختزال العالم من الماء إلى الماء بشاشة جوال، أو لوح كمبيوتر، ألا يدفعنا هذا إلى ضرورة إعادة النظر في صيغة تعاملنا معهم، والتقليل من ضخ مواد السأم في وجوههم بتسريع وتيرة ضخ الفرح، وتحت أعيننا، قبل أن يُحطم الملل أو "الطفش" سدود صبرهم؟