قبل عقدين من الزمان أو ربما أكثر قليلاً (التمويه هنا ليس للنسيان وإنما لدواعي إخفاء السن فقط!).. كنتُ من أكثر المصفقين لإلغاء العصا في المدارس، كنتُ مؤمناً بما يقوله أصحاب النظريات التربوية الحديثة من أن العصا مظهر من مظاهر الرجعية والتخلف والاعتساف، مشبعاً بذلك العنوان الأنيق الذي يتدثر بحقوق الإنسان وما إليه. وقد كتبت في ذلك كثيراً قبل أن أكتشف خطل رؤيتي. لن نعيد «هيبة المعلم» إلاّ بهز العصا.. وشكاوى الآباء والأمهات يجب أن تتوقف "حكاية الزبيرية" لم أستطع أن أكتشف أن مرد ذلك الحماس الذي انتابني، وجعلني في صف النظريات الحديثة التي تجعل من الضرب في المدارس جريمة كبرى.. هو أنني أحد أولئك التلاميذ الذين تورمت أكفهم بالضرب في النظام القديم، حينما كنت طفلاً على مقاعد الدراسة في المدارس الابتدائية، خاصة وقد تصادف حظي مع وجود شقيقين لي يعملان كمعلمين في مدرستي، وكانا أو أحدهما على الأقل يأخذني في أي قافلة ضرب في الصف حتى ولو لم أكن مخطئاً أو مقصراً من باب: (زيديني ضرباً زيديني) على وزن (زيديني عشقاً زيديني).. حتى لا يجرؤ أحد على الزعم بأن شقيقي المعلم المشهود له بالصرامة بأنه يضرب أبناء الناس ويدع شقيقه بصرف النظر عن مبرر الضرب.. مع أنه ما كان يستخدم العصا حيث كان يروقه كثيرا فعل (الزبيرية) من باب أبقى وأنقى وأتمّ!.. ومع هذا لا يزال يحظى باحترام كل أولئك الذين نفض غبار (زبيريته) على أجسادهم، حيث لا يزالون يقبلون رأسه في الأعياد والمناسبات بكثير من التبجيل.. لذلك فقد كنت على الدوام وفي أغلب الأحيان أُضرب فوق البيعة.. وربما ولدت هذه الوقائع عندي عقدة ما تجاه الضرب التعسفي لم تسعفني ثقافتي حينها.. في فرزها ووضعها في موضعها السيكيولوجي. "نظرية كخ" وثقافة الغربيين كنا نحن المصفقين لمنع الضرب في المدارس نعتبر الحضارة في أن نقول (كخ) لكل ما ورثناه من الأجيال جيلاً بعد جيل.. وأن الحضارة أن نترسم خطى الآخرين فيما بلغوه بقطع النظر عن اختلاف البيئة والظروف والعادات والتقاليد والثقافة الاجتماعية.. تناسينا تماماً أن الغربيين مثلاً يعلمون أبناءهم الموسيقى، وأن أستاذ هذه المادة لا بد وأن يغني هكذا يغني مع تلاميذه.. ونحن الذين ما شاهدنا أسنان أي أستاذ سوى أسنان أستاذ الرياضة البدنية -التي لا تزال حتى اليوم عبئاً على المنهج لأنها تمارس كمضيعة وقت!-، تناسينا أن الغرب وضع نظرياته تلك وفقاً لبيئته الثقافية والتربوية التي تلائمه وتلائم أخلاقياته وأدبياته، ولم يفصّلها من أجل أجسادنا الصحراوية التي إن لم تقمعها لواهب الشمس وزمهرير البرد فستقمعها صلافة النفس الصارمة التي ما اعتادت غير العبوس. تجهيل نظرية «لك اللحم ولنا العظم» أضاع منا التربية وأكسبنا التعليم نظرية اللحم والعظم قيّمنا (الأولين) على أنهم أميون.. جاهلون.. متخلفون.. لم يجدوا وسيلة للتربية غير العصا.. حينما كان الأب يأخذ بيد ابنه ويسلمه إلى أستاذه قائلاً بزهو: (يا أستاذ.. هذا ولدي لك اللحم ولنا العظم ) إمعاناً في مد صلاحية الأستاذ إلى ما قبل كسر العظم في التأديب.. كنا نعدها أسخف وأغبى عبارات التجهيل.. لم نتنبه إلى انها نتيجة خبرات وتجارب تراكمية توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل.. لأنها تعرف أن ثقافة الصحراء لا تستجيب إلا لما يوازيها في صرامتها، ونسينا كل تلك التجارب من الأجيال سواءً ما خرج منها من الكتاتيب أو المدارس النظامية فيما بعد.. حينما كانت المعادلة التربوية تقوم ما بين تقاسم اللحم والعظم، وهي قسمة للحق ما كانت تتم بذات المعنى المادي.. قدر ما كانت عنواناً مجرداً للصرامة في التربية.. لتنجز بالتالي أجيالاً لم تفقد لحمها ما شاء الله.. تبارك الله.. وها هي الآن تتكرش على أفخم مقاعد المسؤولية تعالج من الكوليسترول وزيادة الدهون الثلاثية وكل آثار النعمة.. وإنما فقدت فقط علة التمرد وإسقاط الأدب.. مثلما تستهدف العملية التربوية في كل مكان سواء في الغرب الذي دانت ثقافته العصا.. أو في الكتاتيب التي كانت أهم أدواتها العصا!. مخرجات الواقع أعرف الآن أن كثيرين سيمطون شفاههم، وسيزعمون أن هذا الحديث حديث ردة، ونكوص.. لكن مخرجات التربية سواء تربية المدارس بدون عصا.. أو تربية الستالايت والموبايل والبلوتوث والبلاك بيري وما أنجزته، وشكوى المعلمين من سيطرة التلاميذ كما لو أنهم يعيشون تقليعة ما من تقليعات (ماو تسي تونغ) التي وضعت السلطة في أيدي التلاميذ على أساتذتهم في أبشع صور الثورات الأربع، وأقلها حظاً من التوفيق. وما نشهده اليوم من انفلات حقيقي لمعايير القيم الاجتماعية حتى في صفوف البنات نتيجة النظريات التربوية الحديثة.. كل هذا يستدعي منا أن نراجع فعلاً هذه النظريات التي استوردناها كما نستورد الثياب الجاهزة التي لا تتناسب مع مقاساتنا بالضرورة، لنعيد صياغة علاقتنا بها. ضربهم صغاراً ب «الزبيرية» وحينما كبروا قبلوا رأسه يستدعي أن نتوقف طويلاً عند مخرجات هذه النظريات.. من شارع التحلية في الرياض ومثيله في جدة، ومما سواهما في غير مدن، ومن علاقة التلاميذ بمعلميهم، وعلاقة الأبناء بآبائهم عموماً، ومن اعتماد الطلبة على أنفسهم في مراحل متقدمة من التعليم. وهنا بالمناسبة لا بد من أن يتذكر الكهول على الأقل كيف كان أبناء القرى يعيشون الغربة في "عزب شبابية".. لا بل "طفولية" في المدن في المرحلة المتوسطة وفي منازل مستأجرة.. يعتمدون على أنفسهم في الأكل والشرب وكل الخدمات في وقت لم تفتتح فيه محلات الوجبات السريعة.. ليعقدوا المقارنة مع شباب جامعي تتهيأ له الآن كل الظروف في عواصم الوطن وربما في سكن داخلي ومع هذا بالكاد يعتمد على نفسه!. هل شربنا المقلب؟ ليس لي الحق في الإجابة على هذا السؤال.. هذا حق مشاع للجميع.. لكني سأحتفظ بحقي فقط في المقارنة، وسأدع الإجابة عن السؤال لمن يريد.. فقبل هذه النظريات.. كانت هيبة المعلم الذي وصفه شوقي (مسكين يا شوقي) بأنه (كاد أن يكون رسولاً).. كانت هيبته تتحدى أي تلميذ مهما كان مستواه الاجتماعي أن يعبر شارعا ما في غير وقت الدراسة يعبره المعلم في ذات الوقت.. كانت رؤيته تعني أن ثمة نازلة ستحل بهذا التلميذ في الصف في اليوم التالي حتى وإن أتم فروضه.. كانت هنالك قيم يعرفها التلميذ منذ الصف الأول ويتشبع بها حتى النخاع.. ما يجعله يكبر بها وتكبر به، وأعرف معلماً ظل يلتزم الحائط كلما مر به معلمه الذي درّسه الابتدائي حتى بعدما زامله في نفس المدرسة!. بيئتنا الصحراوية لا يناسبها «نظريات الغربيين».. ومؤسس سنغافورة خالف الجميع! من مسخ هيبة المعلم؟ أليست هي النظريات التربوية الحديثة؟.. أليست هي تلك النظريات التي جعلت بعض الآباء والأمهات يتحولون هم ذاتهم إلى مسوخ في أذهان أبنائهم .. ليتهموا هذا الأستاذ أو ذاك بأنه يتعمد إيذاء ابنهم لأنه قال له يا (......) من باب التقريع؟. من مسخ هيبة المعلم والمعلمة.. وحولهما إلى آلة صماء لحلب الدرجات في نظام التقويم البليد لأكثر التلاميذ بلادة؟. من مسخ هيبة المعلم.. وجعله مجرد تكية يعبرها الجميع بأقل مجهود ليبقى مثلما كان هامشا لا قيمة له.. ولا كأنه من يصنع أجيال المستقبل؟. نعم هنالك معلمون سيئون.. ومعلمات سيئات.. غير أن استكشاف سوئهم لا يتحقق بمصادرة حقوق المعلم التربوية والتعليمية، وتحويله إلى مجرد "سقالة" للعبور للطابق الأعلى بلا لياقة ولا أي من لوازم العبور. آباء وأمهات جاهزون للشكوى لقد خرجت النظريات الحديثة جيلاً من الآباء والأمهات.. مستعدون للوقوف أمام المحاكم، ومراجعة ديوان الوزارة عشرين ألف مرة، واللجوء إلى ديوان المظالم إن لزم الأمر.. فيما لو استنفر معلم أو معلمة دمعة ما من عيون أبنائهم.. وإن كانت تلك الدمعة مجرد دمعة دلع أو دمعة "مياصة". وهذه مشكلة التربية لأنها مشكلة تراتبية.. فالآباء الذين كانوا يسلمون أبناءهم لحماً، ويشترطون استبقاء العظم لهم فقط.. كانوا يستمدون هذا المعنى من تراثهم التربوي، والذين يهرعون اليوم للاقتصاص ممن استدمع أطفالهم يستمدون هذا المعنى من تراث النظريات الحديثة التي أمكنتها تجربة العقود الثلاثة الماضية من أن تبني تراثها الخاص.. وهذا ما يجعلنا نتساءل: إلى أين نحن ذاهبون أمام هذه المخرجات التي لا تسر عدواً ولا صديقاً؟. مدارس البنات يقول أحد الآباء.. وهو من جيل الشباب لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر ذهبت إلى إحدى متوسطات البنات لآخذ ابنتي، وكانت حشود الطالبات بعد انتهاء اليوم المدرسي تتوزع على الأرصفة زرافات ووحدانا.. وقد هالني ما سمعت من التعليقات من تجمعات البنات.. لقد سمعت ذلك اليوم من الكلام ما أجبرني في اليوم التالي على نقل ملف ابنتي إلى مدرسة خاصة.. لكن الأمر لم يكن أفضل حالاً.. اكتشفت هذه الحقيقة بعد أن وضعت في حسابهم زهاء الأربعة آلاف ريال مقابل فصل دراسي واحد، وعندها اكتشفت أن الأمر أزمة جيل، وليست أزمة مدرسة!. الطالب تعوّد أن يصحو الصباح على «لواهب أو زمهرير» ووجيه معبسة! نتائج التربية ومخرجات التعليم ما من شك أن مخرجات التعليم الآن قد تفوقت كثيراً على الأجيال السابقة، وهذه محصلة طبيعية لتقدم العلوم نفسها، وتقدم وسائل التحصيل، وتطور وسائل العلوم الحديثة بمختلف التخصصات، وحالة الاستقرار الاقتصادي.. هذا على مستوى التعليم من حيث هو مادة.. لكن هل تطورنا على المستوى التربوي بنفس القدر؟.. أنا لا أفضل أن أنوب عن الآخرين في الإجابة.. لكنني فقط سأسجل انطباعاً ذاتياً لأزعم أنه بقدر ما تقدمنا في التعليم بقدر ما انتكسنا في التربية، خاصة بعد أن تم تحييد العصا التربوي عن المعادلة وهو لبها وعمادها ورأسمالها.. وللأسف بعدما استبدلنا مسمى وزارة المعارف التي لا تعني شيئا سوى التعليم.. بوزارة التربية والتعليم بأسبقية التربية التي تأخرت كثيراً على أرض الواقع.. لأن التعليم عملية ذهنية، وإن شئتم تلقينية قائمة على فتح المدارك باتجاه استيعاب المادة وفق برامج وطرق تدريس معينة.. في حين أن التربية في أبسط صورها.. تحفيز سلوكي لانتهاج سلم قيم متفق عليها وفق منظومة يتساوى فيها المتعلم والأمي لضبط السلوك العام ووضعه في الإطار الأكثر صوابية لحماية أخلاق المجتمع من الانتهاك. لهذا تبدو سلطة المعلم أو المربي في الإطار التربوي أكثر فاعلية لأنها تأتي كاستجابة لرؤية اجتماعية متفق عليها..لا فرق في ذلك بين من دخل المدرسة أو من لا يعرف منها إلا سورها الخارجي.. وهذا ما أدّى بنا إلى هذه الحالة من ضياع الهوية التربوية.. لأن ما يجري في مدارسنا ليس أكثر من مجرد تعليم بقطع النظر عن مستواه.. لكن من المؤكد أن لا علاقة له البتة بالتربية لا من قريب ولا من بعيد، وهذا ما يحتاج إلى إعادة النظر. استشهادات صانع سنغافورة حينما كنت أناقش هذه الفكرة.. تذكرت الكثير من القصص التي تصلح للاستشهاد.. بعضها جاء على ألسنة مسؤولين مرموقين ورجال عصاميين.. وكلنا نتذكر ونعرف الكثير منها، وبوسعنا، وتحديداً الكهول الذين تكسرت العصيّ على أكفهم أن نستدعي من الذاكرة ما كان يفعله الآباء مع أطفالهم.. لنضعها في مقابل ما يعيشه أبناؤنا أو أحفادنا لنلمس ذلك الفارق التربوي الذي ما عاد يحتاج إلى شواهد، وللإضافة من خارج الثقافة المحلية.. يقول الدكتور: (لي كوان يو) هذا الرجل الذي صنع اسم سنغافورة من جزر هامشية في منطقة الملايو إلى إحدى أهم دول العالم الصناعية في العصر الحديث.. يقول في مذكراته بالحرف (ولن أعلق إذ سأدع لكم التعليق على الرغم من اختلاف الثقافات): "تعود بي ذكرياتي المبكرة والحية إلى إمساكي من أذنيّ فوق بئر في رقعة أرض فسيحة تحيط بالبيت الذي كنا نعيش فيه، والذي يقع فيما يعرف الآن بشارع تيمبيلينغ في سنغافورة.. كنت آنذاك في الرابعة من العمر.. كنت مولعاً بالعبث وقد كسرت جرة ثمينة من مجموعة والدي الخضراء المتألقة.. كان والدي حاد الطبع، ولكن غضبه تلك الأمسية وصل إلى الذروة فقد حملني من مؤخرة عنقي من المنزل إلى ذلك البئر وأمسك بي فوقه، كيف لم تتمزق أذناي وهو يؤرجحني فوق ذلك البئر؟ بعد خمسين سنة قرأت في المجلة العلمية الأمريكية مقالة تشرح كيف أن الألم والصدمة يحرران الوريد العصبي في الدماغ فتطبع التجربة الجديدة في خلايا الدماغ، وبذا تطبع التجربة في الذاكرة بحيث يظل المرء يتذكرها لفترة طويلة بعد ذلك". وفي المدرسة.. يقول أيضاً في موضع آخر من مذكراته "طردتُ مرة من قبل المدير.. كان (د.و.ماك لويد) عادلاً وصارماً يفرض النظام على الجميع، ومن بين القواعد التي يتبعها أن الطالب الذي يتأخر ثلاث مرات في الفصل الواحد سينال ضربات بعصا الخيزران. كنت أنهض متأخراً دوماً، وعندما تأخرتُ ذات مرة للمرة الثالثة في أحد الفصول 1938م أرسلني مسؤول الانضباط لمقابلة (ماك لويد). عرفني المدير من الجوائز التي حصلت عليها في أيام توزيع المكافآت (يعني كان شاطر الولد)، ومن المنح المجانية التي حصلتُ عليها، ولكنه لم يعفني من العقاب، انحنيتُ على الكرسي وتلقيتُ ثلاث ضربات على رجليّ، أعتقد أنه خفف لي الضربات، لم أفهم أبدا لماذا يُعارض المربون الغربيون العقوبة الجسدية؟، إنها لم تؤذ رفاقي ولم تؤذني". هيبة المعلم بهز العصا أخيراً وحتى لا نتهم بأننا ننحاز للعنف المدرسي أو الإيذاء الجسدي أو الضرب المبرح والتعنيف.. وهو ما لا نريده حتماً.. فإننا نزعم أن هيبة المعلم بهز العصا فقط في حدود أدبيات التأديب.. كفيل كما نعتقد بتصحيح مخرجات التربية..