في هذه الأيام الاستثنائية ونحن نودع الشهر الكريم، منيت أمتنا العربية بكارثة من كوارثها غير المحتملة، فبعد أن تفاقمت القوارع والأزمات والنهايات الفاجعة في العراق، وبعد أن احترقت سورية وصنفت ضمن بقاع المآسي الإنسانية، وأمسى كل من لبنان وليبيا رهن المجهول السياسي والوجودي، هذه (غزة) في فلسطين العربية المحتلة تغتال يومياً بيد العصابات الصهيونية التي تحتل الأراضي العربية، ولأنه توفر لدى العدو الإسرائيلي مالم يتوفر لدى غيره من عصابات الإجرام، من شهوة التسلط والظلم، ومن الطغيان والبغي والتماهي بالإثم والعدوان، ومن الإيغال والإسراف في التجبر والإفساد في الأرض، والتجرؤ على حرمات الله، جاء اجتياح غزة وما حولها وتدمير كل ما له صلة بالحياة جاء مثقلاً بالغل وبربرية الاعتداء والتشفي ودفن مقومات الوجود والبقاء. وفي غمرة هذا العدوان والطغيان العنصري البغيض، تجلت للأمة العربية واحدة من أكثر مآسيها الوجودية بشاعة، ومن أكثر تجاربها الكونية مرارة تلك التي تتمثل في بلوغ تشرذمها وتفككها وانسلاخها من بعضها حداً لا يتصوره عقل ولا يستوعبه فهم ولا يقرّ به قلب ولا وجدان؛ إذ كيف تقع بقعة غالية عزيزة مثل (غزة) في بلد عربي يستنجد ويستغيث منذ مايقارب قرناً من الزمان مثل (فلسطين) ولا تستطيع البلدان العربية مجتمعة أو متفرقة أن تقوم بأي مبادرة إنقاذ أو حماية من أجلها!؟ وكيف صار قدرنا دولاً وشعوباً أن نكتفي بتلقي أخبار هذه الكبد الغالية من جسدنا العربي المثخن بواقعه المزري؟ من السهل جداً، ومن التافه السخيف كذلك أن نلقي باللائمة وبمترتبات هذا الوضع على الاستعمار الذي حولنا إلى دويلات تقوقعت كل منها في ذاتها وشؤونها الداخلية، ثم أقسمت على ألا تتدخل في شؤون غيرها من قريب أو بعيد! حسناً ما اختلفنا.. لكن إلى متى سيمتد بنا هذا التخاذل والتخلي، وإلى متى ونحن نطأطئ رؤوسنا وتستبد بنا بلادة لا مثيل لها فوق هذه البسيطة ؟ ثم.. إلى متى ونحن أسرى لما تحتمه علينا هذه الفسيفساء في وجودنا وواقعنا العربي الذي لا تنقصه الكوارث والأزمات نتيجة لهذا الواقع ؟ ومن المؤلم والمؤسف جداً، ولكي تأخذ كارثة اغتيال غزة أبعاداً خارج المعقول العربي والإنساني، ولكي تبتعد مأساة التشرذم العربي عن كل الاحتمالات المرجوة، ظهرت أصوات عربية (نعم من بين ظهرانينا) تؤيد ما قامت به عصابات الغدر والخيانة والاحتلال من عدوان وتدمير ونسف لأسباب الحياة في غزة ! وإذا كنا نتوقع في أقدار مقبلة أن نتوحد ضد الاعتداء على أي جزء من وطننا العربي، وأن تسري فينا هزة الثأر كلما اقترب عدو من أي جزء غال من هذا الوطن، فكيف يمكن أن نتوقع شفاءً وعافية من هذه الأصوات التي تنبعث من عفنها أبخرة الذل وموت الهوية والانسلاخ من كل القيم الوطنية؟ لقد صوَّح كل نُسغ للحياء والحياة في الوجوه الكريمة.. وغزة تحترق بهذا الشكل.. لقد مات كل اعتزاز ويقين في وجوه كل الشعراء.. وغزة تموت بهذه الطريقة.. لقد يبست وتكسرت كل الحروف والكلمات في القصائد والدواوين.. وغزة تستباح وتفتت وتمتهن بالشكل والطريقة والسياق الذي يريده المحتل المغتصب الآثم الزنيم. إننا -- أيها العرب -- بهذا الواقع أمة في مقدمة الأمم التي تقودها أسباب ودوافع مرعبة صوب التردي والتشوه والانقراض !.