كلما وافانا شهرنا العظيم المبارك، وأضيئت ساحاتنا بقناديله الفاتنة، واتسعت زاويتا الوجودية والنفسية بمباهجه الروحية، وعبقت مقاطننا وانتشت بطيبه ونفحاته الاستثنائية، بادر كثيرٌ منا إلى إقامة المناحات والرثائيات، وبخاصة من الأدباء والكتاب، ودخلوا في مقارنات غير منطقية بين رمضان الآن ورمضان في سنوات وعقود ماضية، والثابت دون مفاصلة أنهم لا يتحدثون عن رمضان ولا يقارنون بين رمضان الحالي وبينه في أزمنة مختلفة، وإنما هم يتحدثون عن أنفسهم، ويستحضرون ذكرياتهم وفقرات حياتهم ويقارنون بين ماضيهم وحاضرهم؛ لأنك عندما تلتفت إلى الشهر الكريم وتتأمل وتمعن في التفكير لاتجد فيه أي تغير أو تحول، فرمضان هو رمضان عبر السنين والحقب والعهود، غير أن الناس والحياة والأحوال وسياق الوجود هو ما يناله التحول والتبدل؛ بدليل أنك عندما تتأمل مضامين تلك المناحات وما تشتمل عليه تلك الرثائيات تجد أنها - أي تلك المضامين والمحاور - لا علاقة لها بالشهر الكريم من قريب أو بعيد، وإنما هي ذكريات معتادة عن أزمنة الصِّبا والشباب، وفترات الصحة والعافية، وتجارب الحياة في القرى والأرياف، والانتقال إلى العيش في المدينة، إلى حد أن المتلقي لا يفاصل حول أن ما يطلع عليه إنما هو سيرة ذاتية من الممكن أن تسجل وأن تقرأ عن أي زمان ومكان يعيش فيه الإنسان.. إذاً.. لماذا ينسب بعضنا الى شهر رمضان ما يستحيل أن ينسب إليه، مثل أن الشهر المبارك قد تغير، وأنه لم يعد رمضان الذي نعرفه؟! والغريب العجيب أنهم يكادون أن يجمعوا على أن شهر الخير والبركات واليُمن والنفحات قد تردى وتحول إلى الأسوأ حتى كاد هذا الشهر أن ينطق بحكمة الشاعر التي سجلها بهذا الشكل: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا فيا أيها الأحبة: رمضان هذا الشهر الكريم العظيم المبارك الذي ننفتل فيه بالكرامات والبشرى بأيامه ولياليه وتألقه واستثنائيته شيء وكيان وتكوين، وحياتنا وتحولاتنا وتجاربنا وظروفنا شيء وبحث آخر، بمعنى أن تسعى حياتنا وظروفنا وتجاربنا إلى التماهي والاستفادة من جلال هذا الشهر وجماله، لا أن نجعل منه فقرة بائسة من فقرات حياتنا وتجاربنا وسيرتنا الذاتية. كم هو مؤسف ومؤلم أن نحول قيمة كبرى من قيمنا العظيمة إلى مباءة دونية نتحدث عنها ونصنفها ونحكم عليها من خلال تحولات حياتنا، ومن خلال لحظات هلامية تافهة نجمع فيها بين ما مضى وفات وبين الحاضر الذي قد نعاني منه، وربما تطاول فئامٌ منا فتجهموا في وجه الآتي ووضعوا بيننا وبينه قيمة مثل رمضان ليحملوها نظرتهم السوداء وعدم قدرتهم على استيعاب الحياة بكل أطيافها. أنا لست ضد أن يفصح الإنسان عن معاناته ورؤيته ولا عن فلسفته التي قد لا تقنع الآخرين، لكنني ضد الخلط والتجني، وضد التناول الذي لا رصيد له من الحقيقة، وضد الطرح والفكر الباهت الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة. ستبقى يارمضان جنة بين الشهور برغم تجاربنا المريرة وتحولات حياتنا التي ليست على (كيفنا). ستبقى ياجنة الشهور ملاذاً لأنفسنا من شرورها وسيئات أعمالها. ستبقى يا ملاذ حياتنا سيدا عظيما لأزمنتنا برغم بكائياتنا ورثائياتنا التي لا معنى لها أمام وهجك ولآلئ أنوارك. ستبقى ياسيد الأزمنة واحة نفيء إليها كلما أرهقتنا ذنوبنا لنرفع الرجاء والدعاء والدموع إلى من خلقنا وخلقك يا رمضان.