أضيف إلى ما ذكرته قائلاً هذا الإجراء أضحى على كرَّ الأيام والسنين سبباً للحرج والعنت للناس وضياع ملايين الساعات دون عمل، أي أنه تكليف للناس بما لا يطاق وهو ما تأباه الشريعة (انظر : الزحيلي - نظرية الضرورة - ص482) ، كما أن أثره على الاقتصاد بائر، ولهذا فإنه ليس بعجب أن يثير الإقفال التذمر بل والسخط والغضب لدى الكثرة الكاثرة من الناس كالمريض.. فهو إجراء يحرج ويجشم الغلبة الغالبة من الناس كبير عناء وإهدار وقت وضياع مصالح مثال ذلك المراجع لقضاء معاملة له في الدوائر الحكومية وصاحب الصناعة والذاهبين للأسواق والتجار وغيرهم، كذلك هو الأمر نفسه لمن كان منهم مريضاً أو على سفر فهو يتأذى من هذا الإجراء وتحوم في ذهنه تساؤلات حول جدواه وشرعيته.. إذ أنه يدري بأن الشرع قد رخص له الجمع والقصر في الصلاة، كل هذا يعني أن إجراء الإقفال يناهض بل يجبه نصوص الإسلام سأسوقها رَسَلاً في آتي السطور .. فهي كلها تقطع بسماحته، وتبرهن على أنه دين الحكمة والموعظة الحسنة، فهذا الإجراء لا تُضار به المصالح فقط بل هو يسيء أيضاً إلى دين الإسلام.. فهو أولاً: يُنفر من دين الإسلام ذلك الذي ينتوي اعتناقه.. وهو ثانياً يسدي إلى العدو المخامر ذريعة لِيَصِمَ ديننا الحنيف وكأنه دين الكراهة والقسر، ويفتح الأبواب على مصراعيها لنعت مجتمعنا بأنه مجتمع متخلف متعصب ويسوق الكراهية ويجبر الناس عن كره إلى أداء فريضة الصلاة وهو ثالثاً يضير بمصالح المسلمين التي أمر الشرع بالحفاظ عليها، فالأمر بإقفال المحلات التجارية وجميع المؤسسات التي تمارس نشاطاً اقتصادياً ومكاتب الدولة التي سخرت لخدمة الناس وتلبية حاجاتهم.. ما أن يؤذن المؤذن ولمدة تضاهي ساعة عند كل فرض من فروض الصلاة في اليوم.. يفضي - كما ذكرنا - إلى إيقاف أي نشاط اقتصادي أو إداري أو خلافه كل يوم على الأقل لمدة من أربع إلى خمس ساعات على الأقل في اليوم.. إذ أن هذا الإجراء هو مناف لنصوص الشريعة وروحها.. لماذا؟ لأنه يجافي ما ورد من نصوص وردت في كتابه الكريم جل وعلا.. وهذا ما سنراه أولاً: ، وثانياً: هو هاتك مع ما ألزمت به السنة ، وثالثاً: هو إجراء لم يقل به الإجماع.. فالمسلمون وأولهم فقهاء الشريعة في كل المذاهب لم يجمعوا بل ولم يعرفوا منذ عهد الرسول وإلى الآن وفي كل ديار الإسلام في هذه الدنيا عن الإلزام بهذا الإجراء (أي إكراه الناس على الإقفال) وهو رابعاً يضير بالمصلحة العامة للناس واقتصاد البلاد، لأنه يغل يد الناس عن العمل ساعات طوال في اليوم من دون ضرورة، كما أنه في الوقت نفسه يعد سبباً للحرج والعنت للناس الذي نبذته نصوص الشريعة أي أنه يهدر قواعد المصالح المرسلة التي ألزم علماء الأصول في شريعة الإسلام بالحفاظ عليها.. ولعلي شارع كل هذا بتفصيل في السطور الآتية التي أقدم عبرها البراهين على ما أقول به. - إن نص اللائحة الذى أمر بإقفال محلات العمل التجارية وإيقاف كل النشاط لفترة تضارع ساعات كل يوم من أجل وقت الصلاة، فيه نكث لما ورد في قوله جل وعلى: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) - (9) سورة الجمعة . - فالنص الذى ورد في محكم كتابه ألزم الناس بأن يذروا البيع وترك التجارة وغير ذلك من أمور عند صلاة الجمعة فقط وليس عند كل صلاة وفي كل يوم، إلا أن من يستقرئ النص الذي انتبذه رئيس الهيئة في لائحته أي نص الفقرة (2) من المادة (1) يلفيه قد ألزم الناس بإقفال محلاتهم أربع مرات في اليوم.. أي عند كل فرض وفي كل يوم من أيام الأسبوع، وهذا لا يجوز لأنه لا ينطوي فقط على إهدار للنص القرآني بزيغه عنه.. بل ان هذا يعني أن نص المادة الذي قال بإقفال المحلات وقت الصلاة يحوي في مضامينه ضرباً من الإكراه على الذهاب إلى الصلاة في المسجد، فرجل الهيئة يأمر أصحاب المحلات بالإقفال ويأمر أي فرد قرب المسجد بالصلاة فيه مردفاً ذلك بتهديده بعقاب، وفي ذلك لا شك إكراه على أداء الفريضة، فهذا ما انتحاه جمهور الفقهاء، فهم يرون أن التهديد هو من ضروب الاكراه إذا كان المهَدِّدُ قادراً على تنفيذ تهديده على المكره (انظر : المغني لابن قدامة - ج2 - ص384 ، والمهذب للشيرازي - ج16 - ص85 ، والفتاوى الهندية - ج5 - ص35) ، وحتى لو أغضينا عن أولئك الذين يتوعدون بالويل أصحاب المحلات والمارة في الشوارع إذا لم يذهبوا للمسجد.. وهو أمر لا يجوز طبقاً لما ورد في نصوص القرآن والسنة، وكذلك ما قضت به المصالح التي أخذت بها الشريعة.. فإن التهديد هذا يهدر قواعد رفع الحرج في الشريعة..، التي تؤكد كلها بأن الدين يسر والشرع لا يريد العسر بالناس، فهذا المار قرب المسجد أو المتسوق قد يكون مضطراً للأوبة إلى داره أو عنده موعد يلزمه الذهاب إليه في ساعة معينة، فلماذا يكره على الصلاة في المسجد ولماذا يكره على الانتظار حتى تنتهي الصلاة كي ينتهي من التسوق وماذا عن المريض الذي يلزم بانتظار وقت الصلاة كي يشتري دواء؟ وهنا يثور سؤال.. لدى الأقارب من الإسلام قبل الأباعد، أليس الإكراه على الصلاة في المسجد فيه زيغ عن نصوص القرآن.. الكثار التي تنص كلها على عدم جواز إكراه الناس على الدين .. لا أقول قولي هذا على عواهنه.. فوجائي هنا آيات كثار في كتابه العزيز أسوقها بعضاً منها تباعاً فهاكم هي: - لقد جاء في محكم كتابه جلَّ وعلا ما يلي: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) سورة يونس الآية (99).. وقال تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) البقرة (256) ، وقال جل وعلا :(قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم.. فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) سورة آل عمران آية (99)، وجاء في آية (22) من آل عمران ( قل أطيعوا الله والرسول .. فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين).. وفي سورة المائدة الآية (92) (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أن على رسولنا البلاغ المبين) وفي سورة هود الآية (56) (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف الله ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ) وفي سورة آل عمران الآية (64) (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ... إلى آخر الآية التي تقول : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) وفي سورة النحل الآية ( 82) ( فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين) وفي سورة الكهف الآية (29) ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وفي سورة النور الآية (54) (فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) وفي سورة الممتحنة الآية (6) (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) أي أن من يتولى عن الإسلام وقبول هذه المواعظ فإن الله هو الغني أي أنه لم يتعبدهم لحاجته إليهم في نفس أو في صفاته... وفي سورة التغابن الآية (12) (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) وفي سورة الإنسان الآية (28) (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) وفي سورة التكوير الآيتين (26) و (27) ( إن هذا إلا ذكر للعالمين .. لمن شاء أن يستقيم ) .. وقال تعالى (لكم دينكم ولي دين) سورة الكافرون ، كل هذه الآيات هي الأدلة البتارة على عظمة الإسلام ورحابته وأنه دين السماحة واللين والرحمة، ولهذا فإن ما يستدل منها هو أنه لا يجوز شرعاً إكراه أحد على أداء الصلاة على الإطلاق لأن القضية قضية ضمير وعقيدة.. ومن يجترئ على أمر مضاد لهذا الدين وهذه السماحة هو عن الإسلام عامة ،.. إذ كيف بالله يصلي المرؤ عن كره منه بينما نفسه لم تؤمن.. فهل يقبل الخالق جل وعلا منه هذا؟.. ناهيك بالإكراه على الصلاة في المسجد.. فالذي يأتيها لابد أن يؤديها عن تدين وقناعة.. أما إذا لم يأتها على هذا الوجه فهو إما مُصَانِع أو منافق أو أنه مكره على أدائها.. وكلتا الحالتين لن يقبل الله جلَّ شأنه صلاته منه.. بل ان إجبار أي امرئ على أمر هو أول سبب كي ينفّره منه .. وحتى هذا الذي يريد اعتناق الإسلام، .. فإنه إذا رأى العصا وراءه تسوقه إلى المسجد وتأمره بقفل محله التجاري فإنه سيستشعر بأنه سيكره على أداء أمر لا يؤدى إلا طواعية فهذا ما يراه ديننا الحنيف.. فالإكراه يورث الضيق والحرج والعنت إذا كان في حالة لا يقوى معها على الصلاة في المسجد. - فكريم الآيات هذه هي في الواقع غيض من فيض، كلها تعني بل وتقضي شرعاً بأن لا إكراه في الدين.. وأنه لا يجوز إكراه أي امرئ على أمر لا يبتغيه.. فهذا ما تقرّه البدائه التي تنضح بسماحة شريعة الإسلام وسموّها، إذ ليس من المعقول إكراه أمرئ أو إخراجه من بيته أو محله أو مكتبه أو متجره كي يؤدي الفريضة في المسجد.. لأنه لن يؤديها في هذا الحال إلا خوفاً أو رياء.. والله جل وعلا لن يقبل صلاته أو صيامه في كلتا الحالتين ، فكيف بالله يُجبر الناس على هذا الأمر .. وكيف يفرض على شخص أمر آخر لم يأت به لا قرآن ولا سنة ولا إجماع، ونعني هنا إقفال حانوته أو مكتبته كي يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة... هذا إذا عرفنا أنه قد يؤدي صلاته إذا أراد أن يصلي في محله أو في دكانه أو مكتبه، وقد يقول قائل بأنه صحيح لا إكراه في الأمر... والإجبار على قفل المحلات هذا هو محض احترام لوقت الصلاة، وابتغاء تأديتها من الناس جماعة، إلا أن هذا القول هو أيضاً مردود ولا ذريعة له، فالذي لا يغلق حانوته ويظل يعمل فيه لا يعد مزدرياً للصلاة وأوقاتها، فهو قد يصلي في حانوته وله الحق في ذلك فهو أمر مباح، كما أنه لن يمنع أو يلهي الذاهب عن قناعة إلى المسجد، نزيد على هذا بأن الذي يلبث في حانوته يستطيع أن يصلي صلاته جماعةً قرب حانوته ودون ضرورة أن تقام هذه الصلاة في مسجد، ولا شك أن له الحق شرعاً في ذلك، إذ لا آصرة لهذا بقفل حانوته وتعطيله هو وأمثاله من الذين يحثون عن العمل والكسب، بل ان الإقفال لا يعطل صاحب المتجر والحانوت فحسب بل القادمين إلى الأسواق من كل صوب وأوب، كما لا يغاب القول بأنه إذا كان الإقفال هو احتراما للصلاة فإن الأمر ينطبق أيضاً على الصيام فهو من الفروض، وعليه فإن التسليم بهذا القول يعني إلزام الناس بإقفال المحلات طوال النهار والامتناع عن العمل في الجهات الحكومية والمصانع وغيرها طوال شهر رمضان وذلك احتراماً لفريضة الصيام أيضاً. المحامي أحمد بن خالد الأحمد السديري