منذ أن أعلن مهرجان كان السينمائي عن قائمة الأفلام المشاركة؛ والنقاد ينتظرون فيلم "بيات شتوي" Winter Sleep بحماس شديد. أولاً لأن مخرجه التركي نوري بيلج جيلان (كما تنطق بالتركية أو سيلان كما تنطق بالإنجليزية) لم يسبق له أن شارك دون الحصول على جائزة ما، وإن لم يفز بالسعفة بعد، وثانياً لأن المخرج، يزداد، فيلماً بعد فيلم، نضجاً في رؤيته الاخراجية وعمقاً في مواضيعه. وهو من المخرجين الذين وضعوا لهم أسلوباً خاصاً جعله من أهم الأسماء في تركيا بالنسبة للسينما التركية غير التجارية، التي تعتمد على ميزانيات متواضعة وفنيات عالية، وما جعل الترقب يزداد هو أن الفيلم الجديد المشارك، هو أطول فيلم مشارك في المسابقة الرسمية، فهو ثلاث ساعات وربع، ولأن المسابقة احتوت فقط على 18 فيلماً فقط رغم أن عدد الأفلام المتقدمة للمهرجان عال جداً، وأن أفلاماً لمخرجين كبار كالمخرج الصيني زانج ييمو تعرض خارج المسابقة، بل وأن فيلماً لفيم فيندرز، وهو أحد المكرمين في المهرجان وله أفلام مهمة جداً، قد وضع في مسابقة "نظرة ما"، وهي مسابقة أقل مرتبة من المسابقة الرسمية. وقد كان أن عرض الفيلم وأشعل النقاش بين معجب ومستنكر، والحقيقة أن جيلان فاجأ جمهوره بشكل جديد لم يعتادوه في أفلامه، ولكنه حتى في هذا الشكل الجديد يظهر قدرته على أن يجعل المشاهد يحتمل ثلاث ساعات وربع دون ملل. وهو إن أثبت شيئاً، فقد أثبت شجاعته في التجريب والبحث عن أشكال أخرى للتعبير عن أفكاره ورؤاه. يروي الفيلم الذي شاركت في كتابته مع نوري جيلان زوجته إيبرو جيلان، قصة آيدن (هالوك بيلجينير) ممثل مسرحي سابق ابتعد عن التمثيل، يعيش في قرية جبلية حيث يملك فندقا وعقارات أخرى ويكتب مقالات في صحيفة محلية ويريد تأليف كتاب عن تاريخ المسرح التركي، وهو متزوج من نهال (ميليسا سوزون) التي تصغره بسنوات كثيرة وتعمل في المجال الخيري، وأخته نجلاء (ديميت أكباج) التي انفصلت حديثا من زوجها. وبالطبع فالأحداث تدور في فصل الشتاء، كما يشير العنوان، حيث البرودة الشديدة في الخارج تجعل الشخصيات تقبع داخل البيوت معظم الوقت ويصطدم بعضها ببعض. والنقاش الذي يدور بينها حول المبادئ والمثل، يكشف تساؤلات ملحه حول حقيقة ما ندعيه من مبادئ أو نعتقد صادقين أننا نملكها. فهناك آيدن الذي يكرر طوال الفيلم أنه شخص جيد ويحب الخير بل ويؤكد أنه يتصدق كثيراً دون أن يعلن هذا ولكنه حين أتاه المؤجر يشرح له سبب تأخره في الإيجار لم يحاول مساعدته بل ظل يعلق على أن منظره مستفز ويثير حنقه. وعندما جاءه الطفل ليقبل يده وكان يبدو أن الطفل حانق عليه بسبب ما حصل لأبيه مد يده له ليقبله دون مراعاة لما يشعر به الطفل من إهانه. من جهة أخرى فنجلاء تلح على أنه عندما لا نرد على الشر بشر مماثل ولا نوقفه سندحر الشر من تلقاء نفسه لأنه لن يجد رد فعل شبيه، وأنها لو ذهبت لزوجها وتعتذر له عن شيء لم تفعله فهي لا ترى أنها أخطأت في شيء ولكنها ستعتذر فقط لإشعاره بأهمية الاعتذار سيشعر بالخجل. ولكنها أيضاً في تناقض واضح في نقاشها مع أخيها تبدو سليطة اللسان وتصب جام غضبها عليه وعلى زوجته بسيل من الانتقادات لا تبدو فيها بالمثالية التي تنادي بها. ثم هناك آيدن أيضاً عندما يبدو محباً وخائفاً على زوجته في حين أنه يحاول أن يتحكم في كل تصرفاتها وكيف أن الغيرة هي ما تجعله يراقبها أكثر من أنه يخشى أن لا تعرف التعامل مادياً مع التبرعات وتضع نفسها في مشاكل. وهنا يبدو تأثر جيلان بالأديب الروسي أنطون تشيخوف في أعلى حالاته حيث ما يحكي عن الشخصيات هو ما يفعلون لا ما يدعونه بكلماتهم. لكن المحادثات المطولة للشخصيات أيضاً تثير مواضيع هامة، حول الخير والشر وما يمكن أن يجعل الإنسان شخصاً جيداً أو سيئاً أو كيف يمكن فعل الخير وكيف يمكن التعامل مع الشر. أسئلة فلسفية كبيرة وهي أسئلة تمرر أحياناً بشكل غير مباشر من خلال الأحداث كما حدث عندما ذهبت نهال للعائلة الفقيرة لتعطيهم مبلغاً كبيرا من المال وكيف كانت ردة فعلهم في النهاية لتشكل ردا على تساؤل سابق في العمل حول كيف يمكن أن يساعد الإنسان الآخرين. وهنا تحديداً تصبح الحوارات والتطويل مبرراً لأنه جزء مما يطرحه الفيلم حول الحياة والناس والفروق الطبقية والخير والشر. ولا بد هنا من الحديث عن التصوير الذي أداره باقتدار كوخان ترياكي، فقد حظي الفيلم بصورة مبهرة، التي استطاعت، رغماً عن الحوارات التي كانت تأخذ المشاهد بعيداً، أن تكون لوحات تشكيلية مرسومة، كمشهد آيدن على الصخور وسط الجبل وكذلك بعض المشاهد الداخلية حيث ترتفع جماليات الصورة كثيراً وحيث حركة الكاميرا في أقل حالاتها فجيلان معروف باعتماده الكبير على الكاميرا الثابتة واللقطات الطويلة، كما كانت الموسيقى التصويرية والمعتمدة على البيانو جميلة في بساطتها وإضافتها الشاعرية. أما اللقطة التي بدأت شارة الفيلم فهي اللقطة الشهيرة لجيلان حيث أنه غالباً ما يصور شخصياته من الخلف فلا نعرف تماما بماذا يشعرون، ولكنه هذه المرة بدأ من خلف آيدن وقرب الكاميرا حتى ملء رأسه الشاشة وعم الظلام لتبدأ شارة الفيلم معلنة البداية.. وكأنه يقول إنها محاولة لدخول العقل الإنساني ومعرفة طريقة تفكيره. من الصعب أن لا يخرج فيلم كهذا بجائزة إن لم يكن السعفة، وقد امتد وقت التصفيق طويلاً بعد عرض الفيلم وكانت التحية التي تلقاها تليق به وبفيلمه. ومن الأكيد أن نوري أضاف عنواناً إلى قائمة كثير من النقاد لأجمل أفلام العامة.. فالعديد أصبح يدعو الفيلم منذ الآن تحفة سينمائية.