أكثَرَ المعلّقون من ذكر المخرج السويدي الراحل إنغمار برغمان وزميله الفرنسي روبير بريسون في معرض التّعليق على فيلم «سبات شتوي» بعد عروضه الأولى ضمن إطار «المسابقة الرسمية» في دورة هذا العام لمهرجان «كان»، لكن المرجع الإبداعي الذي من الأفضل اللجوء إليه ليس سينمائياً بل مسرحي وفلسفي. بالتحديد يمكن هنا الحديث ببساطة عن مرجعية مشتركة تنتمي الى تشيكوف وإبسن في الوقت عينه إنما بعد تعديلها بالإستناد الى سارتر. ففي هذا الفيلم الأخّاذ والذي يسهل لدى مشاهدته نسيان طوله المفرط (ما يزيد على ثلاث ساعات بالكاد يحدث فيها شيء، ظاهرياً على الأقل)، وعلى رغم أبعاد سينمائية تصل أحياناً الى الإفراط، من الواضح ان الأساس يكمن في ذلك السبر الدقيق والبطيء لأغوار الروح... ما يعني مرة أخرى، في سينما هذا المبدع التركي الإستثنائي، أننا أمام دراسة للشخصيات تكشفها لنفسها أكثر مما تكشفها للآخرين. وكما الحال دائماً في سينما نوري جيلان، يبدأ كل شيء بحادث قد يبدو عادياً سرعان ما يعطي الفرصة لمجابهات مع الذات ولكن دائماً من طريق الآخر. رأينا هذا سابقاً في «من بعيد» وفي «مناخات» ثم في «ثلاثة قرود» وقبل عامين في «حدث ذات مرة في الأناضول». وما نسميه هنا هو أفلام جيلان التي عُرضت في مسابقات «كان» على مدى سنوات وأعطته ثلاث مرات على الأقل ثاني جوائز المهرجان ولكن ليس «السعفة الذهبية» قيل في كل مرة– وعن حق– انه يستحقها. فهل ينالها هذه المرة؟ الاحتمال وارد. فنحن هنا مرة أخرى أمام فيلم كبير. فيلم سيبدو مخيّباً لتوقعات هواة المسلسلات التركية من الذين يبحثون عن الأحداث والسهولة ومشاهد بطاقات البريد في فيلم يقف على النقيض من ذلك كله... حتى وإن رأى مشاهدوه ان كل لقطة فيه جديرة بأن تزين بطاقة بريد. فالمنطقة الأناضولية التي يدور فيها الفيلم تبدو في حد ذاتها آية في الجمال بطبيعتها الخلابة عشية سقوط الثلج وبعده، بالقرية الكابادوتشية المنحوتة بيوتها في الصخور، بالصمت المهيمن، بالأحصنة السارحة في الحقول، وبوجوه الناس القوية المعبرة رغم صمتها. إنه عالم من السكينة يهيمن عليه الممثل المسرحي المتقاعد آيدن الذي يملك ويدير هنا، مع زوجته وشقيقته، فندقاً بسيطاً وأنيقاً ويعيش أيامه حالماً بأن يلعب في حياته الفنية بعد دوراً كبيراً وبأن يكتب تاريخ المسرح التركي، مع ان ثراءه وثقافته الواسعَيْن لا يمكن ان يبقيا احلامه مستحيلة. مع الوقت وبعد سلسلة مشاهد حوارية ستبدو للوهلة الأولى طويلة ومتكررة، سنكتشف، كما يحدث دائماً لدى تشيكوف، ان العائق في وجه أحلام آيدن داخلي. وسنكتشف كذلك، كما لدى إبسن، ان المرء يحتاج إلى هزة من خارجه كي يراجع جوّانيته. ولما كان كل هذا يحتاج الى شرارة تطلق العملية كلها، تأتي الشرارة في شكل حجر كبير يلقيه فتى في الثالثة عشرة على سيارة آيدن فيكسر زجاجها الأمامي فيما كان آيدن يعبر القرية بسيارته مع سائقه. ذلك الحجر منطلق «الأحداث». أتى ليقول ان لا شيء على ما يرام في حياة آيدن، ولا كذلك في حياتنا. وليكشف ان الرجل يخفي خلف هدوئه وسنّه المتقدمة، أنانية واستعلاء يجعلانه، كما ستقول له زوجته وأخته، «شخصاً لا يطاق». وهاتان المرأتان هما اللتان ستكشفان في حواراتهما الطويلة مع آيدن، عمق أزمته الروحية والأخلاقية. وهذا الكشف يعطي الفيلم قوته التعبيرية وحداثته الأخلاقية، ما مكّن جيلان من التأكيد انه يبحث هنا عن المسؤولية الإنسانية وعن الأمور التي نحاول ان نخفيها جاهلين ان الآخرين– الذين نعتقدهم جحيمنا– يسكتون عنها فقط حتى اللحظة التي يتفجّر فيها كل شيء. هذه اللحظة هي يقيناً أقوى ما في «البيات الشتوي» الذي من المؤكد انه سجّل لحظة كبيرة في تاريخ مهرجان «كان».