الملكيات الحاكمة ترسخ نفسها بمرور الزمن وشعور الأجيال تحتها بالأمان.. تكتسب شرعيتها من خلال حكام صالحين، وآليات انتقال سلسة، ومستقبل واضح لتسلسل الحكم فيها.. والقرار الملكي الأخير(القاضي بتعيين الأمير مقرن ولياً لولي العهد) ترسيخ جديد للشرعية، وترتيب سلس للحكم، ورسالة تطمين للداخل والخارج. قرار قد لا يكون جديداً في ذاته (كون الأمير مقرن كان ومايزال في موقعه) ولكنه جديد من حيث تأكيد تواجده، وتوافق الأسرة الحاكمة عليه، وقطع الطريق أمام المزايدات حول ولاية العرش. قرار مهم وحاسم يؤكد استقرار البيت السعودي واستباق ملوك هذه الدولة لأي احتمالات مستقبلية طارئة أو غير متوقعه. فحين يتعلق الأمر باستقرار الوطن لا يجامل خادم الحرمين الشريفين أحداً (ولا حتى نفسه -أطال الله في عمره-) حيث جاء في البيان الملكي صراحة: "يُعين الأمير مقرن ولياً للعهد وملكاً في حال خلو المنصبين".. وقرار كهذا كما يُفهم من البيان نفسه حظي بمباركة خادم الحرمين الشريفين، وتأييد سمو ولي العهد الأمير سلمان، ووافق عليه أعضاء هيئة البيعة، وبالتالي لم يعد من حق أحد نقضه أو تغييره مستقبلاً.. أضف لهذا حقيقة أن الأمير مقرن هو آخر أبناء الملك عبد العزيز ويحتفظ بالترتيب الثالث في ولاية العرش وصاحب تواجد قديم في الإدارة والحكم حتى قبل صدور القرار الأخير (بالتالي لا يوجد من يتقدم عليه في أحقية المنصب الجديد).. ومن جانب آخر؛ لا ننسى أن سموه رجل عسكري وإداري محنك لم يأت من فراغ. فهو في الأصل ضابط حربي وصقر من صقور سلاح الطيران السعودي. أكمل دراسته في بريطانيا وظل يعمل في القوات الجوية الملكية السعودية حتى عام 1980 حين عين أميراً لمنطقة حائل. وفي عام 1999 عين أميرًا لمنطقة المدينةالمنورة حتى 2005 حين صدر قرار بتعيينه رئيسًا للاستخبارات العامة. وفي عام 2012 عين مستشارًا للملك ومبعوثًا خاصًا له وفي فبراير2013 نائبًا ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء. ومن خلال هذا التسلسل الزمني ندرك أن ثقة الملوك لم تهتز يوماً بسموه الكريم وأن اختياره للمنصب الأخير كان قراراً بديهياً ومكملاً لهذا الامتداد التاريخي الطويل (الذي يعود إلى بداية التحاقه بالقوات الجوية عام 1968)!! والحقيقة هي أن القرار الملكي الأخير لا يتعلق فقط بالشخص أو المنصب كونه وجه للعالم رسالة قوية بتماسك البيت السعودي ومرونة اتخاذ القرار فيه.. فجميع الملكيات العالمية عجزت عن كسر حتمية انتقال الحكم إلى"الإبن البكر" إلا في السعودية حيث ينتقل الحكم الى الأجدر والأكثر خبرة من سلالة الملك المؤسس.. لم يحاول أي ملك سابق كسر هذه القاعدة حيث كان استقرار الدولة هو الهدف النهائي لديهم، والاتفاق على ولي العهد تحكمه الجدارة وموافقة الأغلبية. وفي كل مرة تتوافق فيها العائلة المالكة على قرارات كهذه (من خلال التصويت) ترسخ ضمناً دستورية الحكم، وتقطع الطريق أمام أي مهاترات أو مزايدات قد تنال من هيبة الدولة.. وما أتمناه مستقبلاً- بعد أن رسخ القرار الأخير تسلسل الحكم حتى الرجل الثالث في ولاية العرش- هو الخروج بقائمة أكثر طولاً تمتد إلى الترتيب العاشر في أحقية المُلك (كما في الملكية البريطانية).. صحيح أن القائمة ستخضع للتعديل بين الحين والآخر (لأسباب الوفاة أو دخول أفراد جدد) ولكن مجرد إعلانها يمنح الناس شعوراً بالطمأنينة، ويخبر العالم بديمومة التوافق والاستقرار السياسي. بدون شك "الدولة" هي الخيمة التي تضم تحتها كافة أطياف الوطن، ويسعدنا دائماً تثبيتها بوتد جديد.