منذ دُوّنت التوراة، وربما قبل تدوينها، والمحاماة المتلبسة بالدين عن المذكر حاضرة في تأريخ الإنسان بشراسة، ولها شواهد منها ما تقدم القول فيه، وسبق في المقال الماضي الحديث عنه، وثمّ شاهد أغرب من هذا، وأعجب منه، وهو كاشف لكم - أيها السادة - المدى التحريفي للأديان بسبب يرجع إلى الجنس والنوع، فها هي التوراة تُحدثنا عن عقاب الله - تعالى - لآدم وحواء إثر أكلهما من الشجرة؛ لكنه عقاب ما أشد اختلافه، وما أعظم افتراقه، فآدم - عليه الصلاة والسلام - حين أخطأ، وأكل من الشجرة عاقب الله - تعالى - الأرض التي خُلق منها قائلاً له: "ملعونة الأرض بسببك" (سفر التكوين 3 - 17) فالأرض في هذا السياق تتحمل وزر آدم، فتكون عقوبته بلعنها، ويُضحي الجماد مسؤولاً عما يقترفه الإنسان! يُحدثنا القرآن جميعاً عن ابتلاء الإنسان، وقَدَرِه الذي أراده الله - تعالى - له في الحرية والاختيار "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" وحين تأخذ عينك في قراءة عقوبة حواء - عليها الصلاة والسلام - تجد أنها عوقبت بنفسها، وجُعلت عقوبتها في حملها، فقيل لها: "تكثيراً أُكثّر أتعابَ حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك"! (سفر التكوين 3 - 16). إذن من قديم والإنسان الذي يرغب بالذكر، ويُحبه، ويُؤثره على الأنثى، قد ساوى بين موقفه من الذكر وموقف الله - عز وجل - منه، وزاد على ذلك فصاغ رغبته في الميل إلى الولد، وإيثاره على الأنثى، وتقديمه عليها، بالدين، وجعله يتحدث عن رغبته، وما جرى في هذه القضية، وحُمّل الدين تَبِعته فيها، هو نفسه الذي جرى للإنسان، مسلماً كان أم غير مسلم، في فخره المذهبي، واعتزازه بجماعته، وهزئه بالآخرين، وسخريته منهم، كأنْ لم يكن للدين وظيفة إلا أن يُفضله على غيره، ويرفع من شأنه، ويحط من شأن الآخرين، فهذه هي الروح التي عمت أصحاب الأديان؛ إنها توظيف نصوصه في الاعتزاز على الآخرين، والاستهزاء بهم؛ سواء كانوا من جنس مخالف كالأنثى أم كانوا أصحاب مذاهب وأديان، لقد قُضي على الأديان أن تتحدث عن الإنسان، وليس عن رب الإنسان! كان المقال الماضي (حواء وتدوين تأريخ الإنسان) مدخلاً يحدد الوجهة التي سأختارها في مناقشة هذا الحديث، الذي يرويه البخاري ومسلم، ووضعت عنوان المقالة منه، ونصه: (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر) إذ تبين أن القرآن الكريم يجعل المسؤولية على أبينا آدم؛ فهو النبي الموحى إليه، وهو الزوج صاحب الأسرة، وليس لأمنا حواء دور سوى دور الاتباع، وهذا ما يجعل مسؤولية آدم عن خطأ حواء أقرب من إلقاء المسؤولية على أكتافها! في المقال السالف ظهر أن المسؤول الأول في الأكل من الشجرة هو آدم - عليه الصلاة والسلام - فهذا حديث القرآن الكريم، وهو المعنى الذي ليس لنا غيره إذا عرفنا أنه النبي الذي يوحى إليه؛ إذ لا يمكن أن يطالب غير النبي أن يكون أكثر منه التزاماً بما يوحى إليه، وأعظم منه أخذاً بالعزيمة فيه، وهذه النتيجة تأخذنا إلى أمرين؛ أولهما أن حواء لم تخن زوجها، ومن ثم فلن ترث عنها بناتها تلك الخَلّة!!، وثانيها - وهو مبني على ما سبقه - الشك في هذا الحديث أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله، أو تحدّث به إلى أصحابه. وإذا انتقل النظر إلى الحديث، واستخير التأمل فيه، وُجِد - مع ما تقدم في المقال السالف من مناهضته - راجعاً إلى أمور لا يقبلها الدين، ولا تعترف بها الشريعة، وأولها ما يُوحي به الحديث من أن خيانة بنات آدم ما كان لها أن تكون لولا خيانة أمهن، وهذا معنى يُخالف القرآن الكريم حين تحدث عن الإنسان كجنس، ووصفه بصفات، تدل على أن من طبعه الخطأ، ومن جبلته الزلل، وليس الأمر متصلاً بخطأ أبيه، ولا بزلل أمه، فكان مما قاله - عز وجل - عن الإنسان "وخُلق الإنسان ضعيفا" وقال: "إن الإنسان لظلوم كفار" وفي آية أخرى قال: "إن الإنسان لكفور" وقال عن تحمل الإنسان الأمانة: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا"، فهذا هو الإنسان منذ خُلق، وليس خطؤه بسبب من أبيه الأول، وخلله راجعاً إلى أمه الأولى، ولو كان الأمر هكذا - أعني أن الإنسان يرث صفات آبائه الأولين - لقيل لنا: فمن أين وقع أبونا في معصيته، وليس قبله أحد؟ ولقيل لنا أيضاً: فمن أين جاءت أمنا الخيانة، وليس لها أم قبلها؟!. وثانيها أن استعمال (لولا) في الحديث، وهي عند النحويين أداة لربط امتناع الجملة الثانية (لم تخن أنثى زوجها) بوجود الجملة الأولى (لولا حواء خانت زوجها)، يدل على خلاف ما تقرر في الفقرة السالفة، من أن من طبيعة الإنسان الخطأ، والوقوع فيه، إذ هذه الأداة تؤكد على أن الأنثى لو نجت من تقدم حواء عليها بالخيانة لكانت معصومة منها، بعيدة عن قربانها، على حين يُحدثنا القرآن جميعاً عن ابتلاء الإنسان، وقَدَرِه الذي أراده الله - تعالى - له في الحرية والاختيار "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" (سورة الإنسان 2 و3)، فأين هذا الحديث من هذه الآية وأمثالها؟! وثالثها - وهو في ظني أخطرها - أن الحديث يتناسى توبة الله - تعالى - على أبوينا - عليهما الصلاة والسلام - التي جاء ذكرها في كتابه الكريم "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين"، فيُذَكّر بذنب إنسان تاب منه، ويُسَجّل عليه خطأ عُفي عنه، وتلك عادة الإنسان الجهول، الذي يلمز الناس بماضيهم، وما كان منهم فيه، وليس من أخلاق الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أن يفعلوه، فما من المقبول أن يعزو رسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام - إلى أمه ذنبا - على القول بوقوعه منها - تيب عليها منه، وغُفِر لها ما فرّطت فيه. ورابعها - وهو مثل ثالثها في الخطورة - أنّ الحديث يجعل الذنب الذي وقعت فيه حواء - على القول بوقوعه منها - منتقلا إلى بناتها بالوراثة ونزع العرق؛ مع توبتها عنه، وطلب المغفرة فيه، وهكذا يضطرنا الحديث للقول بأن الله - تعالى - يغفر الذنب لصاحبه؛ لكن يبقى أثره على من بعده من ذريته، ويتحمّل أولاده من بعده جريرة سبقه لهم به! ومما يُستغرب من الناس في فهم هذا الحديث أن يقولوا: إن المراد منه هو أن يرضى الرجل عن زوجته مع ما فيها، ويصبر عليها وعلى أخطائها (خيانتها كما في الحديث)؛ فهاهي أمها قد سبقت في الخطيئة، وزيّنت لها طريقها، ومن أشبه أمه فما ظلم، فلتصبر - أيها الرجل - عليها، وليكن لك في سبق أمها لها عزاء، فكأنّ الرجل لا يصبر على أهله إلا حين يعلم بهذه القصة عن أمه، وكأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أعجزته البلاغة أن يجد سبيلاً آخر غير هذا، يحث فيه الرجل على هذه السماحة مع زوجته، وهو الذي أوتي جوامع الكلم! لقد كان أقرب الدروب إلى إيصال هذه المعاني أن يتبصّر الرجل في ظلمه للمرأة، وتعديه عليها، فكما تدين تُدان، وكما يُخطئ الرجل على امرأته، ويترقّب منها الصبر عليه، فليكن هو كذلك، فما يجر الإنسان إلى نفسه من الخير بطريق أسرع من أن يُقدم ذلكم الشيء لغيره؛ لكنما الحديث جاء على صورة كتلك التي وردت أولاً في التوراة؛ فهو يُظهر الرجل بريئاً من الخطيئة، وغير مشارك فيها، ومسؤول عنها، وغاية ما يُنتظر منه الصبر على هذا الكائن الخاطئ، والتعزي بحال أمه! وهذه النصوص وأمثالها يرجع إليها تكوين ثقافة أن الأصل في المذكر البراءة، والأصل في المؤنث الخيانة، وهو أمر يكشفه وجه الثقافة الشعبي في موقفها من المرأة، وليس ذا مقام إيراد الشواهد له، وضرب الأمثلة عليه، فربما كان السادة القراء يعرفون من الشواهد أضعاف ما أعرفه؛ لقدمهم في السن، وعراقتهم في عرك الحياة. ومما يحسن به ختم هذه المقالة أن النووي (صحيح مسلم بشرح النووي 10/ 59 باب الوصية بالنساء) نقل عن القاضي قوله في إيضاح هذا المعنى المشكل:" ومعنى الحديث أنها أم بنات آدم فأشبهنها، ونزع العرق؛ لما جرى لها في قصة الشجرة مع إبليس، فزين لها أكل الشجرة فأغواها فأخبرتْ آدم بالشجرة فأكل منها"، وكلام القاضي في شرحه للحديث صريح في مصادمة القرآن الكريم؛ لأنه جعل إبليس يغري حواء وحدها، وهي بعد ذلك قادت آدم إلى الشجرة، والله - تعالى - في كتابه يقوله: "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم" فإبليس بدأ به، ولم يبدأ بحواء، وأغراه أولا، ولم يُغرها، وهو الذي نُصّ على توبته في كتاب الله - عز وجل - : " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم"؛ فما بال القاضي - وابن حجر من بعده ينقل عنه - يقولان قولاً يخالف كتاب الله - تعالى - ويصوغان القصة حسب ما يرويه أهل الكتاب؟!