يلتمس الإنسان سنداً لرأيه من الدين، ويجتهد في البحث عنه؛ لأنه يدرك أن الربط بين الدين والرأي سبب من أسباب خلوده، وسبيل من سبل بقائه. ولو قيل لي: ما أخلد الآراء والمواقف في حياة الشعوب؟ لقلت: إنها تلك التي يحشد لها أصحابها دعائم من الدين، وحججاً من الروايات عنه. وخبرات الشعوب تُوضع كلها تحت محك النظر، ويُستشار فيها العقل، تُقبل تارة، وترفض تارات أُخر، وليس لشعب حق في أن تُبجّل خبراته، وتُجَلّ مأثوراته؛ لكن ما ترثه تلك الشعوب، وهو يمدّ بسبب إلى الدين ورجاله، يكون التسليم به أول خيارات الإنسان معه، ويصبح الإجلال باديَ الرأي فيه. لقد تمت صياغة تأريخ الإنسان في تصورات رجال الدين صياغة تبعث الصراع بين طرفيه، وتُشجع على التظالم بين قُطبيه، فالصراع على الزعامة بين الرجل والمرأة قديم، والنزاع بينهما في التأريخ بعيد، وحكمت هذه التدوينة تأريخ الرجل والمرأة، وأضرّت بهما وهذا ما يجعل الإنسان يبدو أضعف ما يكون حين يتعلّق الأمر بالدين ومسائله، فليس له حولٌ في فحص ما جاء متدثرا باسمه، ولا طاقة له في التحري عن حاله، ومهما ترتب عليه من مآسٍ، وارتُكبت به من مظالم، فليس في كل هذا ما يدعوه إلى مراجعته، وتوقع البلاء منه، وهذا ما يجعل تصورات الناس لأديانهم ينطبق عليها قول العرب الشهير: من مأْمنه يؤتى الحذِر! وهذا يقودني إلى القول: إن أطول الصراعات عمرا، وأمدها زمنا، وأبقاها أثرا، هي تلك التي ارتبطت بتصورات الناس للدين، وانتزعت من نصوصه، وليس يغيب في هذا السياق عن السادة القراء صراع المذاهب المسيحية، وركوبنا موجتها في تأريخ الإسلام؛ حتى أضحت هذه الصراعات مضرب المثل عند الناس في تماديها، وكانت غفلة الناس عنها، وعن آثارها، أحق بضرب المثل، وأليق به! وإذا كانت هذه حالة الناس مع الدين وتصوراته، فهي أولى القضايا أن توضع على طاولة الدراسة، وتُرفع عنها القداسة؛ لأن النظر فيها خدمة للأديان ونصرة لها أولا، وخدمة للناس وحفظ لحقوقهم ثانيا. للإنسان دوران حققهما على هذه الأرض، أولهما التحشية على النص الديني، وثانيهما التحشية على الواقع الذي يعيشه، ويتقلب في ظروفه، وهو إلى السكون أمام الأول أسرع، وإلى الإذعان بما فيه أقرب. وهذه الحالة المخبتة للإنسان أمام الحواشي الأولى، والنزعة الاستسلامية له معها، كان يُظن بها أن تدعوه إلى نقدها، والعمل على الحذر منها، واتخاذ الإجراءات الصارمة قبل قبولها، والإخلاد إلى ما فيها؛ لكن تأريخ الإنسان، فيما بدا لي، جانبَ هذه القضية، وظل جهده يسعى لأن يحفظ هذه الحواشي بعيدا عن النقد، ويضعها في منأى عنه؛ سواء أكانت الحواشي متعلقة بتصور الكون نفسه، أم كانت متعلقة بطبقنة البشر وتصنيفهم. وما دامت سلطة حواشي الدين كانت جبارة في تأريخ العلم الحديث، وحُكيت قصص في وقوفها أمامه، ولم تنفعه الوقائع المرئية، ولا الأحوال المشاهدة في هزهزة هذه الحواشي والتصورات؛ فهي إلى بسط سلطتها في علاقة أصحابها بالناس أشد، وعلى الهيمنة عليهم في هذا الأمر أقدر، وذاك الذي كان في جميع الأديان؛ إذ صارت طوائف وأحزابا، وتفرّقت شيعا ومذاهب، ولم يجد المختلفون سبيلا يحلّون به معضلات افتراقهم، ولا معيارا يخفف من ويلات تنابزهم. ولست بناسٍ أن العلم - مع الصعوبات التي قابلت رُوّاده في العصر الحديث - نجح في خدمة الدين، وتخليصه من تصورات أصحابه، خدمة لم يستطع القيام بها أهل الدين ورجاله؛ حتى حق لمثلي أن يقول: لقد نجح العلم في خدمة الدين، وفشل حُداته، والمتحدثون باسمه! وإذا كان أثر التصورات الدينية في عوق حركة العلم، وعرقلة علاقة الناس بالناس، أمرا مشهودا، وقضية بدهية، وخبرا سارت به الركبان، فثمة أمر آخر، شاركت تصورات الدين في بنائه، وتولّت رجاله رصْفه، والإحكام لأساسه، فحصدت به البشرية مظلمة، لم يطل في التأريخ مثلها، ولا عرف الناس - مذ خلقوا - نظيرها، وتلكم هي قضية أمنا حواء - عليها الصلاة والسلام - مع رجال الدين، وبُناة تصوراته في اليهودية والمسيحية والإسلام! لقد تمت صياغة تأريخ الإنسان في تصورات رجال الدين صياغة تبعث الصراع بين طرفيه، وتُشجع على التظالم بين قُطبيه، فالصراع على الزعامة بين الرجل والمرأة قديم، والنزاع بينهما في التأريخ بعيد، وحكمت هذه التدوينة تأريخ الرجل والمرأة، وأضرّت بهما، وسوّغت للرجل ما يأتيه في حق المرأة، فكان في ظلمه لها أشبه بمن يقوم بدور الدفاع، ويُطبق المقالة العسكرية الذائعة: الهجوم خير وسيلة للدفاع، فذاك ما تقوله التوراة لليهودي، وتأمره به، وتحث عليه؛ إذ جاء فيها أن أبانا - عليه الصلاة والسلام - أجاب ربه - عز وجل - حين سأله عن علة إتيانه الشجرة قائلا: "المرأة التي جعلتَها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (سفر التكوين 3 - 14). ومثل هذا جاء في رسالة بولس إلى تيمو ثاوس، ففيها "وآدم لم يغوَ، لكنّ المرأة أُغويت فحصلتْ في التعدي" (2 - 14). وشبيهٌ بهذا، وأسوأ منه، ما رواه الطبري في تفسيره عن سعيد بن المسيّب - رحمه الله - أنه قال:" سمعته يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة، وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر؛ حتى إذا سكر قادته إليها فأكل" (1/ 566). هذه النصوص تجتمع مع اختلافها على أن المرأة كانت وراء خروج الجنس البشري من النعيم المقيم الذي كانوا فيه، وجنة الخلد التي سكنوها أول مرة، فهي نصوص تجعل المرأة أساس الشؤم، وركن البلاء في تأريخ الإنسان، فلولاها لما كنا اليوم في هذه الأرض نتقاتل، ويكيد بعضنا لبعض، ويتربص فريقٌ منا بالآخر؛ فما أشأم أمَّنا، وما أشأم بناتها بعدها! هذا هو حديث هذه النصوص، وهذا ما يستخلص منها، والبراءة كل البراءة فيها لأبينا - عليه الصلاة والسلام -، فما يقول القرآن الكريم في القضية؟ وكيف فصل في المسألة؟. في القرآن الكريم يظهر أبونا هو المحور، ويبدو فيه المسؤول الأول والأخير في القضية، وليس لأمنا حضور فيه، سوى حضور التبعية والمحاكاة في الفعل، فها هو القرآن يحكي لنا القصة، ويُذكّرنا بما جرى، بصورة تختلف تماما عما تحكيه التوراة، ويقوله لنا بولس في رسالته، ويُقسم عليه مَنْ يُحدث سعيد بن المسيب غير مستثنى في قسمه! يقول لنا الله - تعالى - في كتابه: "فتلقّى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" (البقرة 37) فآدم صاحب الذنب، والمقدم عليه، والساعي في طلب التوبة منه، وليس لحواء من الذنب إلا متابعته، والقيام بما قام به. ويقول الله - تعالى -: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزما" (طه 115)، وفي السورة نفسها أيضا: "وعصى آدم ربه فغوى" (120)، فهذه الآيات الثلاث تضع آدم في أتون المسؤولية، وتُحمّله كل ما جرى، وتُجرّد حواء من كل شيء، وما كان هذا بغريب؛ فآدم هو النبي، الموحى إليه، وهو أولى الناس باتباع ما أُمر به، والعزم على القيام بما طُلب منه؛ لكن رجالات الدين بعده أخلوه من المسؤولية، وحمّلوها حواء، وكان أشد ما أتوا به ما قاله سعيد بن المسيب - رحمه الله - إذ جار في حكايته على الله - تعالى - أولاً، وعلى حواء ثانيا. جار على الله - تعالى - حين نسب إليه الظلم، بتحميله آدم إثم ذنب، قام به، وهو لا يعقل. وجار على حواء حين صوّرها - دونما بينة ولا برهان - بصورة، لم يستطعها الشيطان مع الإنسان، وهو عدوه الأول، "ولكن حواء سقته الخمر؛ حتى إذا سكر قادته إليها فأكل"! وإذا كانت أمنا حواء - عليها وعلى أبينا الصلاة والسلام - تمثل الأمومة في تأريخ الإنسان، فقد انتهزتُ الفرصة للبر بها، وببناتها اللاتي يقمن بهذا الدور بعدها حين قرأت ما أوردته لكم من مرويّ يحكيه الطبري في تفسيره، ويسكت عنه بعد إيراده، وأحببت أن أقف موقف المحامي عن الأم؛ لأنها أولى بذلك؛ فقد حُرِمت في التأريخ الذي دوّنه الرجال، وشكّلوا صورته، وهي أحق بدفاعي، وأولى بجهدي؛ فقد جاء من حديث البخاري أن رجلاً سأل الرسول - عليه الصلاة والسلام -: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك". وإذا كان الحديث في حسن الصحبة، فهو يجري أولا على تصحيح صورة هذه الأم التي ورد في صحبتها هذا الحديث؛ فحواء أم الأمهات، وإذا كان الإمام سعيد بن المسيب - رحمه الله - قد وقف في صف أبينا، وحكى ما حكاه من مخادعة أمنا له، وغشها في التعامل معه، وهو لا يملك حجة ولا برهانا، فالوقوف في صف أمنا، تدفعني إليه الآيات القرآنية، وتُلزمني به الأحاديث النبوية التي تجعل الأم مفضلة على الأب في حسن الصحبة، ومن حسن الصحبة رفع هذا الظلم الذي قضت البشرية عمرا مديدا في اعتقاده، وصاغت في النهاية ثقافتها تحت تأثيره!