أود الإشارة بداية إلى أنني لستُ ضد توجيه النقد الإعلامي لأي من القطاعات الاقتصادية أو الخدمية في البلاد طالما التزم الناقد بالموضوعية، وابتعد عن التشكيك، واستند على منطق قويم، وحجة قوية؛ بعيداً عن التحامل أو الأهواء. ومن هذا المنظور فإنني أعتقد أن قطاعنا المصرفي ليس فوق مستوى النقد حينما يكون هناك ما يستوجب انتقاده باعتباره من قطاعات الأعمال الوطنية التي تتقاطع خدماتها مع مصالح المواطنين سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين أم اعتباريين. وعلى الرغم من أن بنوكنا ليست مؤسسات ملائكية ولا توصف بالمثالية إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن أرباحها انتهازية أو غير مبرَّرة كما يحاول البعض تصويرها. الترحيب بالنقد البنَّاء: وانطلاقاً من كوني مواطناً في المقام الأول، ثم كاتباً يحاول جهده توظيف فكره للمصلحة العامة، فقد سبق لي وأن كتبت مطالباً بتطوير جوانب محددة في الصناعة البنكية، وتوجَّهتُ في خطابي إلى الجهة المعنية وهي مؤسسة النقد وذلك على الرغم من انتمائي للقطاع البنكي، وعلمي المسبق بأن بعض المصرفيين قد لايتفقون بالضرورة مع بعض آرائي. أقول هذا اليوم للتأكيدبأن أمانة الكلمة تقتضي من الكاتب التجرُّد، والحيادية، والالتزام بالمصلحة العامة، وبموضوعية الطرح، وأن القطاع المصرفي الوطني مثله مثل باقي القطاعات الاقتصادية الأخرى يحتاج لآراء ناقدة ولكن موضوعية ؛ تسهم في تطويره وتلافي أوجه القصور إن وجدت. أهمية قطاعنا البنكي وحصافة "ساما": مناسبة المقدمة السابقة هو ماطالعتي بكثير من التعجُّب والأسف في مقال الكاتب القدير الدكتور عبدالله بخاري والذي حمل عنوان (من يستفيد من أرباح البنوك الفلكية؟)، وسوف أحاول في هذا المقال مناقشة العديد من الاستنتاجات التي حفل بها ذلك المقال وجانبت النقد الموضوعي لقطاع اقتصادي وطني حيوي، ترك بصماته الواضحة والمستمرة منذ عقود على دعم وتمويل مختلف مشاريع التنمية في المملكة، ذلك هو القطاع البنكي الذي يُعتبر أحد أبرز المحركات الرئيسية لاقتصاد بلادنا وأكثرها تأثيراً ويضم اثنتي عشرة مؤسسة مالية قوية تعمل تحت اشراف سلطة نقدية حصيفة نجحت في تجنيب بنوكنا واقتصادنا الوطني مخاطر الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2011. أرباح البنوك مُبرّرة ومتوقعة: وأبدأ بالتأكيد على حقيقة مهمة مفادها أن أرباح البنوك الوطنية مجتمعة والتي يعتبرها البعض فلكية؛ هي في حقيقة الأمر أرباح طبيعية جداً ؛ بل ومتوقعة من مؤسسات أعمال بمثل حجم قطاعنا المصرفي ومقدار رؤوس الأموال المستثمرة فيه، هذا فضلاً عن أن هناك بعض الشركات الوطنية الكبرى في العديد من قطاعاتنا الاقتصادية التي تكاد دخولها الصافية أن تضاهي أرباح القطاع المصرفي الوطني بأكمله، ورغم ذلك لم توصف يوماً بالفلكية، ولم تكن قط موضع تساؤل أو استنكار!. عدم فرض ضرائب: والملفت هنا أن لوم البنوك الوطنية على مقدار الأرباح التي تحققها، لم يتزامن مع تقديم تحليل واقعي لأسباب تحقيقها لأرباحها الجيدة ؛ حيث غالباً ما تُثار جزئية غير دقيقة لتبرير ذلك من نوع "عدم تطبيق نظام ضرائب تصاعدية على أرباح البنوك"!، وكأننا هنا نلوم البنوك على أمرين، أولهما هو أمر لا دخل لها به وهو السياسة المالية الحكومية التي أرتأت عدم فرض ضرائب على أرباح الشركات الوطنية، وثانيهما هو أمر يجب أن لا تُلام عليه بنوكنا بل يجب أن تُشكَر عليه ؛ ألا وهو كفاءة واحترافية إداراتها الوطنية التي نجحت في تحقيق أبرز الأهداف الأساسية لحملة الأسهم، وهو تحقيق الأرباح. محدودية عدد البنوك: أما ثاني الأسباب التي يوردها المنتقدون فهو" محدودية عدد البنوك"، وهنا يتأكد التباس الأمر على منتقدي بنوكنا حيث يخلطون الأوراق بتوظيف معلومة صحيحة في سياق خاطئ لأن البنوك ليست مسؤولة ولا مختصة عن توسيع قاعدة السوق المصرفية، وكان حرياً بمن يعتقد بمحدوية عدد المصارف السعودية أن يتقدم بملاحظته المتعلقة بضرورة توسيع القاعدة السوقية للبنوك، أو بمشروع فرض ضرائب عليها، إمَّا إلى مجلس الشورى عبر القنوات المختصة لمناقشتها بما يخدم مصلحة الوطن، أو أن يتقدم بمقترحاته مشفوعة بالمبررات الموضوعية، إلى مؤسسة النقد باعتبارها جهة الاختصاص. الودائع المجانية ليست مجانية!: كما يعتقد منتقدو جهازنا المصرفي بأن "الودائع المجانية " هي ثالث أسباب ارتفاع أرباح البنوك حيث يرون أن أصحاب الودائع يرفضون تقاضي أي عوائد عنها، وحقيقة الأمر هو أن ما يعتبرونه ودائع مجانية " يكاد أن يُصبح من "التاريخ المصرفي" وذلك بعد نجاح مصارفنا الوطنية منذ سنوات في ابتكار منتجات ودائع ذات صيغ تتوافق مع أحكام الشريعة الغراء، وبالتالي تتيح لعملاء البنوك من المودعين - على اختلاف قناعاتهم - الحصول على عوائد عن إيداعاتهم، هذا فضلاً عن أنه على افتراض وجود ودائع لا يتقاضى مودعوها عوائد عنها فإن ذلك لا يعني مجانيتها لأن هناك تكلفة على حفظها وإيداعها. تشكيك مرفوض في دور البنوك: وفي سياق الانتقادات المستمرة للبنوك الوطنية، يستمر المنتقدون في طرح المزيد من التساؤلات التي تُشكِّك في دور المصارف وإسهاماتها في دعم الاقتصاد الوطني وكفاءة أدائها عبر طرح المزيد من الأسئلة من نوع "ماذا فعلت البنوك لتستحق كل هذه الأرباح الخيالية؟! " و "ماذا تفعل البنوك بكل هذه الأرباح الفلكية!؟" و"مَنْ المستفيد الحقيقي من هذه الأرباح الهائلة؟". كفاءة البنوك وانضباطها: وانطلاقاً من كوني مهتماً بالمتغيرات المصرفية، ومتابعاً للشأن الاقتصادي، يسرني أن أجيب عن هذه التساؤلات بصفتي الشخصية ؛ بادئاً بالرد على السؤال الأول بالتأكيد على أن المبرر لأرباح بنوكنا هو عملها بكفاءة وانضباط تُحسد عليهما، وأتمنى أن تقلِّدها فيهما باقي مؤسسات الأعمال الوطنية لاسيما الخاسرة منها والتي تكتظ بها سوق الأسهم السعودية مع ما يترتب على ذلك من أضرار بالغه لا سيما على صغار المساهمين، وبدون أن يبادر الكاتب لتوجيه نقده إليها. تمويل التنمية والتوزيعات النقدية: في حين أجيب عن التساؤلين الثاني والثالث بأن ما تكسبه البنوك السعودية تقوم بإعادة تدويره في شرايين اقتصادنا الوطني من خلال التوزيعات النقدية لحملة أسهمها والذين بدورهم يقومون بإعادة استثماره في مختلف قطاعات الاقتصاد؛ كما تقوم بنوكنا باستخدام مواردها لتمويل آلاف الشركات الوطنية التي تقوم بتنفيذ مشاريع التنمية في البلاد، في حين يذهب جزء لا يستهان به من الدخل التشغيلي للبنوك لخدمة عملائها من خلال تطوير البنى التحتية للمصارف من نظم إليكترونية، وأمن معلومات، وبرامج متطورة، وتدريب مُتقدِّم للموظفين، هذا فضلاً عن توظيف بنوكنا جزءا ثالثاً من أرباحها في تعزيز مراكزها المالية، وبناء احتياطيات ومخصصات تساهم في سلامة وأمان جهازنا المصرفي. تطوير الخدمات وخلق الوظائف: أيضاً تقوم بنوكنا باستثمار جزء من دخلها في افتتاح منافذ خدمات إليكترونية وفروع جديدة، تخلق بدورها عشرات الآلاف من الوظائف المتميزة لبنات وأبناء الوطن كل عام ؛ وبأجور وحوافز ومزايا هي الأعلى والأفضل في القطاع الخاص فضلاً عن تميُّز خدماتها المقدمة لموظفيها وأفراد أسرهم في مجال التأمين الصحي، ناهيك عن تخصيص معظم بنوكنا مبالغ متفاوتة من أرباحها لدعم المجتمع ببرامج متعددة لا يتسع المجال لسردها وإن كنت أتفق مع الدكتور عبدالله بضرورة زيادة المبالغ التي تخصصها البنوك للمسؤولية الاجتماعية، آملاً أن يكون الدكتور قد أدرك الآن من هو المستفيد الحقيقي من أرباح بنوكنا الوطنية. كفاءة الدور الرقابي ل"ساما": ونظراً لأن المجال لا يتسع مع الأسف لتفنيد جميع اتهامات الكاتب للقطاع البنكي الوطني، فسوف أختم مقالي بالإشارة إلى أن كل ما ذكرتُه أعلاه هو مؤشر قوي الدلالة على كفاءة الدور الرقابي لمؤسسة النقد، إضافة إلى كونه دليلاً على النجاح الذي يمكن أن تحققه الكفاءات المصرفية الوطنية في قطاع شديد الأهمية والحساسية كقطاع صناعة الخدمات المالية متى ما توافرت البيئة المحفِّزة والإشراف الفعَّال. الطرح الهادئ يخدم الإصلاح: ختاماً فإن ما أود التأكيد عليه هو أن البنوك الوطنية ليست منزَّهة عن مواطن الخلل مثلها مثل العديد من القطاعات الخدمية سواء الخاصة أو الحكومية، وأن الأسلوب الأمثل لتلافي أوجه القصور هو بالطرح الهادئ والموضوعي البعيد عن التحامل والذي يجعل الرغبة في الإصلاح هي الهدف المنشود وليس التشكيك أو التأليب. * كاتب اقتصادي