يُعاني العالم الإسلامي اليوم من أزمات طاحنة ترجع في مجملها إلى أزمة الوعي الكلي/ العام الذي أنتج كل هذا التخلف على كل المستويات. إنها أزمات تتناسل وتتعاضد؛ فتخنق الواقع من حيث هو انعكاس لاختناقات الوعي المأزوم. فما يحدث في الواقع لا يحدث مصادفة، أي لا يحدث خارج نطاق الوعي الذي يؤطره، لا يحدث بمعزل عن تصورات الفاعلين. ومن ثم لا حلول لتأزمات الواقع بمعزل عن الحلول لتأزمات الوعي الكلي/ العام. الجهاد الحقيقي هو الإصرار على مواجهة تُجّار هذا الخطاب الجهادي/ العنفي/ الإرهابي. والمواجهة الجهادية هنا لا تكون بتعزيز المنطلقات التي ينطلق هؤلاء الإرهابيون منها، وذلك بتكرار الإحالة عليها، بل لا بد من نقض الخطاب من أساسه حتى لا يصبح موضوعاً للمتاجرة أصلاً هذا من حيث عموم علاقة الوعي بالواقع. أما من حيث خصوصية الإشكاليات الراهنة، فلا بد أن نعي أن أزمة الوعي التي تُؤزّم هذا الواقع هي في جوهرها أزمة العلاقة مع التراث فَهْماً وامتثالاً، إذ لا يزال الوعي الإسلامي يعيش على مستوى الوعي مرحلة الفهم القروسطي ( فهم الأسلاف)؛ بينما هو في الواقع ينخرط قسراً في المعاصرة بكل شروطها الفائقة؛ مما ينتج عنه هذا التمزّق الحاد بين الشروط التي ترتبط باستحقاقات الواقع والشروط التي ترتبط باستحقاقات الفهم التراثي للتراث. الفهم التراثي للتراث لن ينتج عنه إلا هذا التأزم المرضي مع الواقع. في عالمنا العربي البائس، يشترط التقليديون ببلادة متناهية فهماً تراثياً للنصوص التأسيسية التي تُشكّل عصب المنظومة التراثية، بينما الفهم التراثي كان لا يتجاوز أفق عصره بحال. ومن هنا يستحيل على الفهم التراثي للنصوص المؤسسة أن يفي بالتزاماتنا نحو معاصرتنا؛ لأنه فهم تم إنتاجه ليفي بالتزامات واقع يختلف عن واقعنا أشد ما يكون الاختلاف. إذن، ليست أزماتنا محدودة بحدود الخلاف مع تُجار الوعظ الكسيح الطافح بالغباء بقدر ما هو طافح بالعنف، فهؤلاء ليسوا أكثر من فرع على أصل. أصل المشكلة كامن في نظام الوعي الذي لم يتغير عند هؤلاء، بينما تغيّر كل شيء في عالمنا اليوم، تغير كل شيء إلا تصور هؤلاء عن أنفسهم وعن دينهم وعن واقعهم، وباتوا أجهل الناس بهذا الواقع الذي يريدون إعادة إنتاجه على حدود ما رسمه الأسلاف بعقولهم الصغيرة المحدودة بحدود ذلك الواقع التاريخي الذي كانت فيه المعرفة الإنسانية مجرد جنين لم يُولد بعد، مجرد جنين لم يزل آنذاك رَجْماً بالظنون التي تُغازلها الأوهام الميتافيزيقية من بعيد، فلا ينتج عنها إلا قليلٌ من علم مظنون، وكثيرٌ من خرافة باتت تتربع على عرش اليقين. من قبل أزمتنا مع تجار الوعظ الجهادي/ الإرهابي، كانت أزمتنا مع تجار التزمت والانغلاق في أكثر من ميدان، وفي أكثر من قضية، وستبقى أزمتنا مع هؤلاء أزمة مفتوحة على كل مسارات التحوّل الاجتماعي؛ لأن المسألة لا تكمن في هذه الجزئيات التي يتنازعها الفهم القروسطي الموروث مع كل مُحددات الفهم المعاصر/ الحديث، وإنما هي أزمة في نظام الوعي، بحيث تلقي بظلالها على كل صور النشاط الإنساني. أي أن النزاع مع الماضويين المتطرفين الذي يمتهنون تأزيم واقعنا هو نزاع على تحديد مسار/ هوية المعرفة، قبل أن يكون نزاعاً على ما ينتج عن هذه المعرفة في الواقع من إشكال أو استشكال. ما لم نتوجه إلى أصل المشكلة، إلى قعر المستنقع الأصولي؛ فسنبقى ندور في حلقة تَوهان مفرغة، ولن نفرغ من مشكلة إلا لندخل في مشكلة أخرى. وهذا هو للأسف واقع الحال، إذ لا يكف هؤلاء المتزمتون عن الاصطدام الدوري بمسارات التقدم التي يطمح إليها المجتمع جاهداً؛ من أجل الخروج من عنق زجاجة التخلف التي تخنق الأنفاس. في كل يوم يشدنا هؤلاء الوعاظ المُتخلفون إلى أزمات مفتعلة، بحيث لا ينفض سامرنا عن مشكلة/ أزمة إلا وأدخلونا في مشكلة أخرى، لا لشيء؛ إلا لأن عقولهم الصغيرة المتحجّرة لم تستوعب درس المعاصرة بعد، أو أنها (استوعبته!)؛ ولكن بفهم تاريخي/ تقليدي تزييفي، يُحيل الواقع بكل مكوناته إلى مشكلة، فتكون مسيرتنا بمثل هذا الاستشكال التقليدي ليست أكثر من سلسلة من العثرات والتأزمات والاختناقات التي لا تتحلحل إحداها إلا لتلقي بنا في متاهات أخرى، فكأنما مسيرتنا نحو المعاصرة مغامرة مجنون في حقل ألغام. ينقل هؤلاء التقليديون مشروعية (الجهاد) من واقع ماضٍ غابر إلى واقع راهن، على بعد ما بين الواقعين. كما ينقلونه من فهم زمن إلى فهم زمن آخر، أي من نظام معرفي إلى نظام معرفي آخر. وهنا يقع الاضطراب على مستوى تصور الواقع في الماضي، بقدر ما يقع الاضطراب على مستوى تصور الواقع الراهن. والعكس صحيح بطبيعة الحال. يعرف كل من له أدنى إلمام بالتاريخ أن شروط الاحتراب في الماضي ليس هي شروط الاحتراب في الراهن. ما كان في ذلك الزمن مشروعاً ومقبولاً في العرف العام، لم يعد مشروعاً ولا مقبولاً في هذا الزمن. الرق مثلاً، كان شيئاً مستساغاً، ومن ثم مشروعاً في سياقٍ تارخي غابر، بينما هو اليوم جريمة كبرى، بل هو أكبر جريمة بعد القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد. ومن هنا، لا يمكن قياس الماضي على الواقع الراهن، ولا قياس الواقع الرهن على الماضي الغابر، لا لإدانة الواقع، ولا لإدانة التاريخ، فشروط هذا تختلف عن شروط ذاك بأوسع درجات الاختلاف التي لا يتصورها كثير من مُمتهني المطابقة بين زمنين مختلفين، وربما متضادين ومتناقضين في بعض الأحيان. في الماضي، حيث صاغ التقليديون مفهوم (الجهاد) بناء على تصورهم المحدود بحدود واقعهم، لم يكن ثمة حدود متفق عليها دولياً. كان العُرف العام أن حدود أية دولة هي حدود مرنة، حدود مفتوحة، تتمدد وتنكمش بناء على معادلات القوة والضعف المرتبطة بظروف الدولتين المتجاورتين. كانت القوة هي الحق، ومن ثم هي المشروعية التي تتنزل على أرض الواقع. وكان الجميع يؤمن بهذه المشروعية، ويستجيب لمقتضياتها؛ ريثما تسمح له الظروف بشيء من التغيير. بما أن القوة في الماضي كانت هي المشروعية؛ فقد كان القتال لإخضاع الآخر مشروعاً. لم يكن استخدام القوة يحتاج إلى مشروعية من أي نوع؛ لأن القوة بحد ذاتها كانت هي المشروعية (ومن هنا مشروعية المُتغلّب في الرؤية التقليدية)، وكانت كل الأطراف (من غالب ومغلوب) على وعي باستحقاقات هذه المشروعية، ومن ثم لا يعملون على استصدار مشروعية خارج إطار القوة؛ لأن أية مشروعية خارج إطارها كانت نوعاً من العبث الذي ينتهي بصاحبه إلى أن يصبح لقمة سائغة لأي طرف من أطراف الصراع. إن الجهاد كان مفروضاً في الماضي (كمفهوم وكواقع) بفعل منطق الصراع الذي كان يتكئ على معادلات القوة. في الماضي (والماضي هنا هو: الزمن الممتد منذ فجر التاريخ إلى تخوم الزمن المعاصر، حيث التشكل السياسي الحديث في القرن العشرين) كانت كل الدول تصدر عن معادلات القوة، وتجد مشروعيتها في القوة، ومن الواضح أن أية دولة حاولت البحث لنفسها عن مشروعية خارج مشروعية القوة لم يكتب لها النجاح، بل مُنيت بالفشل الذريع. وكل حاكم تقدّم إلى الفضاء السياسي من غير أن يتوفر على شيء من مشروعية القوة: قوة السلاح وقوة المال، لم يكن مصيره المأساوي مغرياً لغيره بالسير على هذا المنوال. قبل أن يتحرر الإنسان من عبودية القوة، كانت المشروعية هي مشروعية:" ذَهَبُ المُعزّ وسيفه" . وأصل هذه المقولة إن صدقت أن المعز لدين الله الفاطمي عندما قدم إلى مصر بعد أن وطّد له الحكم فيها قائده جوهر الصقلي وبدأ يمارس سلطته كخليفة، صادف بعض الاحتجاج، إذ شرع الناس يتساءلون عن حقيقة نسب هذا الحاكم الجديد الذي يدّعي النسب الفاطمي الشريف. وقد وصلت أصداء هذا التساؤل الذي يبحث عن مشروعية خارج مشروعية القوة إلى مسامع المُعز، فجمع أعيان مصر الذين كان يتوقع أنهم مصدر هذا التساؤل الاحتجاجي، وقال لهم : هل تريدون أن تعرفوا حسبي ونسبي؟ قالوا: نعم، فسلَّ سيفه وقال: هذا نسبي، ونثر عليهم الدنانير، وقال: هذا حسبي. وهنا قالوا جميعا: سمعنا وأطعنا. أي أنهم عرفوا من خلال الواقع (حيث العصا والجزرة، الرهبة والرغبة) أين تكمن المشروعية، ولذلك لم يكن لهم إلا التصريح بالتأييد، وإلا فإن مضمون التأييد كان متحققاً بمنطق القوة الذي كان هو المنطق السائد، وقد كانوا يدركون أنهم في قبضته؛ مهما حاولوا التمرد عليه في عبث الكلام العابر. هذا المنطق العضلي، منطق القوة ليس هو السائد قديماً فحسب، وإنما هو المصدر الأساسي للشروعية. ولهذا، فعندما كان قدماء التقليديين يُقرّرون مبدأ الجهاد، وتحديداً؛ عندما يُشرّعون لمبدأ جهاد الطلب (جهاد العدوان، مع نهي الله عن العدوان صراحة !)، فإنما كانوا يستجيبون لشروط المشروعية في الواقع (واقعهم آنذاك)، بصرف النظر عن المبادئ الدينية التي يتمسحون بها، إذ كان الواقع هو الذي يُوجّههم في الحقيقة، والنصوص لا تحضر إلا استتباعاً للاستئناس، بينما هم في ظاهر منطوق الخطاب يتظاهرون بأن النص هو الذي يحكم رؤيتهم من الأف إلى الياء. اليوم، وبفضل التصورات المبدئية والعملية التي نتجت عن مسيرة خطاب التنوير في الواقع الغربي، وعن تمثّلها في الواقع العملي (وهو التَّمثل الذي لم يحدث على نحو حاسم إلا منتصف القرن العشرين تقريباً)، لم تعد القوة هي المشروعية، أو لم تعد هي المشروعية الوحيدة في كل الأحوال. فالنظام العالمي الذي نتج بشكل مباشر وغير مباشر عن الرؤى التنويرية المتأنسنة التي عولمت حقوق الإنسان (ومنها حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وما ترتب على ذلك من إنشاء الهيئات الأممية التي تصون استقلال الدول مهما صغرت، وتمنع التهامها من قبل الدول الكبرى) هو الذي يصنع المشروعية السياسية اليوم، ولا مشروعية لأية دولة خارج هذا النظام العالمي الجديد، وهو العالم الذي بفضله لا تستطيع أقوى الدول الاعتداء على أضعفها؛ وإلا تمت إدانتها صراحة. وهذا بلا شك يُعدّ قطيعة نوعية مع كل مراحل التاريخ السابقة، تلك المراحل التي كانت فيها الدولة الأقوى تلتهم الدولة الأضعف بمنطق القوة الافتراسي الذي لم يكن آنذاك يحتاج إلى أي تبرير. بحكم ما يمليه العصر من إلزامات، نحن نتطور طوعاً وكرهاً. وها ما نلمسه في ما طرأ حتى الفرع الثاني من تنظير القدماء للجهاد، أقصد: جهاد الدفع، حيث لم يعد تحديده منوطاً بالفقهاء التقليديين، بل بالخبراء العسكريين تحديداً، والذين هم في سياق التشكيل السياسي الحديث أهل الحل والعقد في هذه المسألة، بل هم من يصوغ التصور الحديث لمنطق الصراع، حيث هو منطق يختلف جذرياً عن تصور القدماء. لا يجوز أن نبحث مثل هذه المسألة (الجهاد) من فروعها؛ فنرجع الحلول إلى مقولات للقدماء من هنا وهناك، بل لا بد من معالجتها من أصولها. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتجاوز الخطاب التقليدي برمته، بل والقطيعة معه؛ لا من حيث هو خطاب قد انتهت صلاحيته منذ قرن أو أكثر، ولم يعد مصدر إثراء فيما يخص هموم المعاصرة وإشكاليات الواقع الراهن فحسب، وإنما أيضا من حيث هو خطاب معطوب لا يورثنا إلا مزيداً من التخلف والتطرف والتأزم الناتج عن الاصطدام الحاد مع كل رؤى الحداثة ومع كل مسارات التحديث. الذين يحاولون معالجة الظاهرة الإرهابية(الجهادية) بالتعويل على تفعيل شروطها المراوغة، هم يدعمون هذه الظاهرة من حيث يشعرون أولا يشعرون. إنهم يُسْهِمون في تعزيز الارتباط المرضي بتصور ماضوي/ غير فاعل للعلاقات الفردية والمجتمعية/ الدولية، مما ينتج عنه مشاكل مؤجلة، قد تكون أعنف وأقسى من كل ما نعانيه اليوم مع تُجار الخطاب الجهادي. إن الجهاد الحقيقي هو عكس هذا الإرهاب الذي يعدونه جهاداً، الجهاد الحقيقي هو الإصرار على مواجهة تُجّار هذا الخطاب الجهادي/ العنفي/ الإرهابي. والمواجهة الجهادية هنا لا تكون بتعزيز المنطلقات التي ينطلق هؤلاء الإرهابيون منها، وذلك بتكرار الإحالة عليها، بل لا بد من نقض الخطاب من أساسه؛ حتى لا يصبح موضوعاً للمتاجرة أصلاً. ومن ثم يأتي من حيث الأهمية والفاعلية فضح المتاجرين بهذا الخطاب، وذلك بكشف تلاعبهم النفاقي به من خلال سلوكياتهم الواقعية، حيث لا بد من كشف حقيقة أنهم يستثمرون مآسي المسلمين ومشاعر الناس تجاه هذه المآسي، لتحقيق مكاسب معنوية ومادية، لا يحلمون بمثلها خارج نطاق هذا الخداع النفاقي الذي يتوسل زوراً وبهتاناً مبادئ الدين الحنيف.