ومع وضوح البعد الأيديولوجي الذي ينطلق منه هؤلاء الخوارج، وتحديدهم - بأنفسهم - المرجعية التراثية التي يمتاحون منها ؛ إلا أننا نقف من هذه الأيديولوجية، وهذه المرجعية، موقف المتسامح في أحسن الأحوال، وموقف المعذر فيما سوى ذلك من أسوأ الأحوال. هناك (حالة) راهنة من التدين، وهذه الحالة لها امتداداتها التاريخية التي تتعانق بها مع المرجعيات التأويلية لهذه الفئة، خاصة في بعض أبعادها. وهذا ما يجعل تفكيك خطاب التطرف يبقى ناقصاً في كثير من الأحوال. ولا يخفى على الكثير منا التردد الذي يمارسه بعض العقائديين لدينا في إدانة الإرهاب بصراحة وقطعية، وذلك بنسبتهم الحالة الإرهابية إلى الخطأ أو الجهل بالمبادئ المتفق عليها، لتبرئة المبادئ من تلبسات الحالة. إضافة إلى أن البعض لم يصدر عنه إلى الآن تجريم واضح وحاسم للإرهاب عامة، وللإرهاب لدينا خاصة. هذا التغاضي المريب من بعضهم ليس تجاهلاً لخطر الإرهاب، بقدر ما هو صيانة للمبدأ المشترك بينه وبين الإرهابي، أي حماية هذا المبدأ من أن (يميّع) بزعمه. ولهذا ؛ نراه يستنكر الفعل (الممارسة الإرهابية) دون الخوض في أبعادها العقائدية على نحو تفصيلي، وإنما بعموميات يكثر فيها مجال الاحتمال. أي أنه يراها مجرد خطأ في التطبيق المرتبط بسياق ما. وفي ظني أن مواجهتنا الفكرية للإرهاب لا زالت هزيلة في كثير من ملامحها التي تظهر في الساحة الآن. فبينما حقق الشطر الأمني - ولا يزال - نجاحات باهرة في ميدانه، نجد أن الشطر الآخر (الفكري) لا يزال متردداً في بعض أطيافه. إن هذا النجاح الأمني بقدر ما يبهج، بقدر ما يكشف عن رؤيتنا المحدودة للقضية، وأنها تتجه صوب الأمني المحسوس، أكثر مما تتجه صوب الفكري المضمر. ومن المؤسف أن يحدث هذا، مع أن القضية - كما أشرت في الجزء السابق - ليست مجرد جريمة منظمة، بحيث يمكن أن يردعها حجم النجاحات الأمنية، والعقوبات القضائية الصارمة، بل هي عقائدية بالدرجة الأولى، إلى درجة تجعل المنخرط فيها لا تعنيه النتائج المتعينة، بقدر ما يعنيه ذات الفعل، بصرف النظر عن مآله ومآل جماعته. ومع صعوبة حصر المحاور الفكرية التي يجب التركيز عليها، من حيث كونها ذات تشعبات عقائدية شائكة، إلا أن هناك بعضاً من المحاور التي لها طابع العلاقة الخاصة بالموضوع. وبهذا يمكن أن يكون هذا (البعض) مدخلاً ذا طابع استقطابي، يتم من خلاله تناول القضية، في الوقت الذي يفتح فيه هذا التناول المجال لكثير من الإضاءات التي يجب أن يقوم بها المعنيون ذوو الاختصاص، كل في مجاله. وأهم هذه المحاور فيما أعتقد، ما يلي: 1 - مفهوم الجهاد. فالجهاد في مقارباتنا الفكرية، لا زال يطرح بعيداً عن التصورات المدنية المعاصرة. الرؤية الفقهية التاريخية لا زالت تحكم الطرح الديني في هذا السياق، وتجبره على أن يحكم الوقائع، أو على نحو أدق تجبر الوقائع على أن تستجيب - قسراً - للتنظير التاريخي. إن الجهاد، مع كونه - في صورة من صوره - عملاً تطوعياً، إلا أنه لا يمكن أن يتم خارج المؤسسة العسكرية النظامية. أي أن الجهاد في القديم هو المؤسسة العسكرية في الحديث، مع أخذ فوارق المعطيات المعاصرة بعين الاعتبار. لم يكن الجهاد - إبان التشريع له - تقوم به جماعات دون نظام. وكان من يريد الجهاد يتقدم بطلب الانضمام إلى الجيش الرسمي، فربما قبل طلبه، وربما رد، لسبب عسكري أو لسبب سياسي. ولم تكن هناك جماعات تطوّع خارجة عن الإطار السياسي، بحيث تعمل لوحدها، إلا فيما بعد زمن التشريع، وهي من أسباب الاضطراب الذي لحق الأمة في معظم فتراتها. وقد عبَّر بعض الفقهاء المعاصرين - وإن بأسلوب مختلف - عن هذه الرؤية، وذلك في إلحاحهم على أن الجهاد (أي عمل عسكري هنا) باطل، ما لم يكن تحت راية لها مشروعيتها السياسية، بحيث يُعرف البعد الاستراتيجي لمثل هذا الحراك العسكري، كيلا يتم استغلاله لهذه الفئة أو تلك. ومن العبث أن يتصور أحد - أو يُصوّر له - أن الجهاد مجرد تطوّع ذي مبادرة فردية، تتحكم فيه الرغبة الخاصة، بل هو قرار جماعي. ومن يريد الجهاد فعليه بالانضمام إلى المؤسسة العسكرية النظامية، والتي لم تنفق عليها المليارات من أموال الأمة وطاقاتها وأوقاتها واهتماماتها عبثاً. ومن حق المؤسسة أن تقبل أو ترفض طلب مريد الجهاد، وفقاً لأنظمتها الخاصة، كما كان هذا يحدث إبان التشريع، فليس كل من تطوع للجهاد تم قبوله، لمجرد أنه يريد ذلك. إن الوعي المدني ذو طابع مؤسساتي. وخروقات العمل - أي عمل - التي تتمرد على المؤسساتية إنما هي من بقايا البدائية القابعة في أعماقنا، وملمح من ملامح الانشداد الساذج إلى طرائق التفكير العاطفي. ولا شك أن جزءاً من إشكالياتنا الراهنة تكمن في أننا لا نزال نعوّل على القرارات والمشاريع الفردية، ولم تترسخ المؤسسة - كبنية - في وعينا العام بعد. إن الجيش النظامي قد يمكث وقتاً طويلاً دون أن يخوض معركة على أرض الواقع. لكن هذا لا ينفي جهاديته، وأنه من العدة الشرعية، ولكنها العدة (التي لا تتمنى لقاء العدو) إكمالاً لشرعيتها. ومن البدهيات أن لا مؤسسة عسكرية دون مرجعية سياسية، مرجعية تنظم لها مشروعية وجودها في البداية (لأنها حالة عنف تحتاج لتبرير، والدول هي التي تحتكر العنف، ليتحول إلى عنف إيجابي، أو هكذا يفترض)، وترسم لها طريقها في معترك الواقع، ذلك الواقع الذي لا تحكمه معادلات القوة العسكرية فحسب. 2 - في مقاربتنا للظاهرة الخارجية المعاصرة، يجب أن نُدرك أننا أمام ظاهرة خارجية فريدة من نوعها. فهي بقدر ما تتفق مع الخوارج الأوائل في العقائد والأصول، بقدر ما تختلف عنهم في بعض مناحي السلوك. وأقصد هنا الخوارج المستترون (المكفراتي الصامت)، دون غيرهم من أرباب العمل المسلح. لقد كان الخوارج الأوائل صرحاء مع أنفسهم ومع غيرهم، حتى (القعدة) منهم لم تكن تسمح لهم أخلاقهم بالمداهنة، واللعب على أكثر من حبل!. وربما كانت هذه هي الحسنة الوحيدة التي توفرت في الظاهرة الخارجية في طورها الأول. لكن، خوارجنا اليوم، وخاصة القعدة منهم، لا يمتلكون قدراً من الشجاعة يسمح لهم بأن يحددوا مواقفهم من المجتمع على نحو واضح. إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة: هل نحن - أي كدولة وكمجتمع - في نظرهم مسلمون أم لا؟!. هذا السؤال ليس سؤالاً ترفياً، بل هو مصيري، لنا ولهم. وهم يعون أن الإجابة عليه بالنفي أو بالإيجاب، تحدد الكثير من الأحكام التي تحكم علاقتنا بهم. وأنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام - غير المفصل - كافرة، إما لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر، وإما لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء، وإما لأنها لا تنكر كل ذلك. 3 - يلاحظ أن المعالجة الإعلامية المرئية - في شقها الديني -تعتمد الوعظ في مخاطبة المجتمع، أو مخاطبة جماعات الإرهاب، أو المتعاطفين معهم من قعدة الخوارج. والمعالجة الإعلامية المرئية لها دورها الفعال في محاربة تلك الرؤى المتطرفة وخلق الرؤى المستنيرة، لأنها لا تختص بشريحة دون أخرى، ولأنها ذات وسائط مؤثرة في أعماق اللاوعي العام (الجمعي). إلقاء المواعظ حتى وإن أثر في بعض الإرهابيين إلا أنه لا يحسم الإشكال الفكري، هذا الإشكال الذي سيبقى مصنعاً منتجاً للرؤى المتطرفة، ومن ثمَّ الإرهاب المسلح. الكلام عن حرمة دم المسلم والمعاهد لا يغني شيئاً في مثل هذه الحال التي نحن عليها، لأن ما يقع ليس بين طائفتين من المؤمنين اقتتلتا، لم تكفر إحداهما الأخرى، أي ليس حالة بغي، وإنما هي حالة تكفير من قبل المتطرف الخارجي للمجتمع الذي يحاربه. هؤلاء الخوارج لو اقتنعوا أن الذي أمامهم مسلم لم يقاتلوه، لأنهم يعرفون - كما نعرف تماماً، ولا يحتاجون لمواعظنا في هذه الناحية - حرمة دم ومال وعرض المسلم والمعاهد. المشكلة تبدأ، عندما لا يروننا مسلمين، بل يروننا مرتدين، يجب إقامة الحد عليهم، ومن ثمَّ فكل المعاهدات التي أبرمناها مع غيرنا معاهدات باطلة، والمعاهدين بواسطتها لا ذمة لهم وعهود تحميهم. وبهذا يستحلون دماءنا ودماء المعاهدين من غير المسلمين، ويصبح الوعظ الساذج بحرمة دم المسلم أو المعاهد نوعاً من العبث، لا يفي إلا في تزجية أوقات الفراغ التلفزيوني. إشكالية هذا الوعظ - إضافة إلى عدم جدواه - أنه يدعم - دون وعي منه - بعض المرتكزات الأساسية التي تحكم مجمل الوعي الإرهابي، ومن ثمَّ التنظيمات الإرهابية، كمفهوم الطاعة مثلاً. وهو مفهوم لم يعد له في المدنية المعاصرة ذات المفهوم القديم الذي يراد تكريسه، ولكن المنظمات الإرهابية كافة تعمل من خلاله في خلاياها العنقودية التي لا كينونة لها بدونه. 4 - خطبة الجمعة كمؤثر إعلامي توعوي، وديني في الوقت نفسه. هذا المجال الإعلامي لا زال يمارس بمنتهى التقليدية إلا فيما ندر. لا زال الخطاب السلفي التقليدي هو المهيمن، من حيث مجمل الرؤى، ولا زالت طرق معالجة الحدث الراهن تنحى منحى لا يمت إلى معطيات الواقع بصلة، بل هو اجترار للماضي، وقائع وأفكارا. ومعنى هذا: أن الخطبة لا تزال تعوّد الجماهير على الآلية نفسها التي تعود المتطرف فيها أن يتناول واقعه ونصوصه. فلا خلاف - إذن - في طبيعة التفكير، وإنما في توجيهه! كل من يصلي الجمعة! يدرك أن وزارة الشؤون الإسلامية لم تكثف رقابتها على خطبة الجمعة، من حيث كونها ليست تعبيراً عن رأي فردي، ذي طابع فكري عام، لا يجوز تجييره للرؤى الخاصة. والواقع يحكي أن المنبر الديني العام أصبح مجالاً لاجتهادات الخطباء الكرام، وكل واجتهاده!. ولا يخفى أن (كثيراً) منهم يقوده الحماس العاطفي أكثر مما يقوده منطق الاجتهاد الفكري، هذا إن كان قادراً على الاجتهاد!. ولا حل لهذه الإشكالية - فيما أرى - إلا بأن تصاغ الخطب والأدعية المرفقة على نحو مؤسساتي، منظم من قبل مختصين - دينياً وفكرياً وسيكولوجيا - دائمين، لا مرحليين، تكون وظيفتهم كتابة الخطب المتنوعة، والمتباينة طولاً وقصراً. ولابد أن تكون على مستوى عال من الاتساق فيما بينها، كي لا يتناقض الخطاب الديني كما هو واقع الحال. ولن يواجه الخطيب أي حرج، عندما تكون هذه الخطب على درجة عالية من الكثرة والتنوع، بل ستجنبه حمل عبء أمانة الاختيار!. كما لن يواجه الجمود الفكري الذي يخشاه البعض، إذ أن ذلك ستدعي أن يشارك الخطباء المتميزون في صياغة الخطب المقررة على الجميع، وسيكون الحافز في هذه الحال أشد، لاتساع دائرة المستفيدين. بهذا الاقتراح - فيما لو تم تفعيله - نقضي على الاجتهادات الفردية التي تزرع الاضطراب في الشأن الديني، وهو الشأن الذي يتغيا - في مقاصده العامة - الاتحاد والاتساق في الخطوط العريضة (المصيرية). ولا شك أن هذا سيقلل من حجم السلبيات، التي بقيت الوزارة المعنية عاجزة عن متابعتها إلى هذه اللحظة. 5 - المؤسسة الأكاديمية لا زالت تواجه الكثير من الحرج، وخاصة مع بعض الأقسام الشرعية، والعقائدية منها على وجه الخصوص. لا زال كثير من منسوبي هذه الأقسام - وبعضهم له جماهيره الواسعة خارج الحرم الأكاديمي - لم يحدد موقفه على نحو واضح من الإرهاب، وخاصة من شيطان الإرهاب الأكبر (بن لادن) ويسرون أكثر مما يعلنون، بل يتخذون المنابر الجامعية التي يتقاضون على سد فراغها أعلى الرواتب قنوات تأثير في العقول الناشئة، ويجعلون الإرهاب - من خلالها - جهاداً، أو في أحسن الأحوال، جهاداً في غير موضعه!!. لماذا لا تتم صياغة وثيقة عامة تُجرّم الإرهاب، وتدين المنظمات الإرهابية بأسمائها، وتحدد رؤوس العمل الإرهابي العالمي بأسمائهم، حتى لا يكون هناك مجال لخلط الأوراق، وبعد ذلك تعرض على من يتصدون للتأثير في الرأي العام من خطباء وأساتذة جامعات، ليوقعوا عليها، ومن ثمَّ تعلن أمام الجماهير. ومن يرفض. فعليه أن يحدد - بوضوح - سبب رفضه، ليميز الخبيث من الطيب. 6 - هناك (فئة) تعلن عن نفسها بين الحين والآخر، وتزعم لنفسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجتمع في هذا المكان أو ذاك، لتصدر بيانات الاعتراض، ولتقدح في الأشخاص. هذه الفئة، هي من مروجي البيانات، ومجمل خطابها يسعى لطلبنة المجتمع. فمنذ قرار (الدمج) وإلى هذه الساعة لم يقر لها قرار، وهي - في كل اعتراض - تصور المجتمع في صورة لا تبتعد كثيراً عن تصوير جماعات التكفير والهجرة لمجتمعاتها. نشاطها الميداني موجود، وهي خطرة، حتى على علماء الدين الرسميين الذين لا يوافقونها، كما أن نشاطها عبر وسائل الإعلام السرية (الإنترنت) أصبح كبيراً، إلى درجة تقترب من الهيمنة على بعض المواقع. لابد من تعرية مقولاتها علانية، كما أنها تطرحها علانية. لابد من كشف روح الوصاية التي تتلبس سلوكها، حتى لا ينخدع بدعايتها من تأخذ بلبه ومضات الزيف، لمجرد أنه موشح بالنصوص.