أنا هنا مسكين، أحاول أن أتطاول بجسدي فلا أقدر، وأحاول أن أكون شجاعاً فيجذبني خوف مستبطن تحت جلدي وفي فراغ عظامي. أنا هنا مع ذاتي مخلوق غير الذي ترونه، دعوا عنكم صوتي وحديثي الذي يشي بالثقة والامتلاء بالرصانة، صدقوني إنني أخف كثيراً وأهون كثيراً، وأوهى كثيراً مما تظنون. صباح هذا اليوم قرعت أذني كلمة فقوضت كل أبنيتي الداخلية! وخرجت من غبار الركام وأنقاض الحيطان والسقوف بمعجزة مع عشرات الجراح والكدمات النفسية التي سالت منها دماء لا لون لها إلاّ أنها حارقة وحامضة ولها رائحة الكآبة والذل!! الرصاص والرماح أدوات قتل وجرح للأجساد المفتولة والمحصنة بالعضلات والعصب المشدود كحبال السفن، هذه الأجساد لها من الصلابة والمتانة ما يجعلها تستعصي على السقوط والنزف الدائم ومقاومة الموت في مضائق كثيرة حتى وإن سقطت فهي تسقط بشراسة وتموت بشراسة. رصاص الكلمات وحده يدمر ما هو داخل الأسوار فالانفجار يحدث من الداخل ومن ثم فأنت الوحيد الذي ترى انفجار نفسك، ونزف نفسك وتدمير نفسك! هل تصدقونني إذاً أيها السيدات والسادة وأيها المتفرجون والمتفرجات أن عنترة بن شداد العبسي الذي أمامكم ليس سوى فراشة لينة الجناحين سهلة الانكسار سريعة العطب!! أيها السيدات والسادة والسامعون والسامعات هل تصدقون أن هذا الصوت الرنان الفخم الضخم الذي يملأ أسماعكم وقلوبكم بالهيبة والوقار ما هو الا صدى لمعزوفة ريح في كهف يقطنه الفراغ والجلبة الصوتية الجوفاء؟ إنها فقط حذاقة التمثيل ومكر التمثيل ومكر الصورة الجسدية الخربة والتي تعاني من التدمير رغم مشهدها الجسدي التمثيلي الصلب. هكذا وجدت ليلى هذا الاعتراف على طاولة زوجها، والذي يبدو أنه كتبه قبل أن يذهب إلى النوم، وحارت ليلى في سبب هذا الاعتراف ولمن هو موجّه، وما الأسباب الدفينة وراءه، وراحت تحلل النص بحكم كونها خبيرة اجتماعية وعالمة نفس. لكنها وهي مستمرة في تحليل النص بدأت تسأل نفسها: أيعقل أن هذا يدور في عقل زوجي فلا أتنبه إليه؟ أيمكن أن يكون زوجي هكذا، شخصية مختلفة عما أرى وأسمع؟ أبعد هذه العشرة والمعايشة أكتشف بالصدفة أن زوجي ليس زوجي؟ أيعقل ان أكون مخدرة ونائمة تحت سيطرة سلطة تمثيلية رغم كل حواس الاستشعار المكتسبة والطبيعية التي أمتلكها؟ هل أنا امرأة فاشلة وبسيطة وساذجة ومغرورة بذاتي وبسلطتي التي أكتشف الآن خيبتها وضعفها وعجزها؟ ظلت ليلى تحملق بعينيها الواهنتين في سقف الغرفة الذي أخذت تنعكس على وجهه عبر النافذة الزجاجية أضواء الشارع وخيالات المارّة. وتخيلت أن شخصية زوجها ليست سوى شخصية شبحية هي أقرب إلى هذه الظلال المتحركة نتيجة ارتدادات وانعكاسات زجاجية مخادعة، وأنها هي الأخرى عينان بلهاوان لا تتجاوز رؤيتهما حدود الانعكاس الطيفي المخادع. ومدت يدها إلى الرسالة وأخذت تقرأها من جديد، وحارت ودارت واستشاطت غضباً من نفسها، ولم تجد مخرجاً الا أن تهاتف زوجها للتأكد من أنها واعية لذاتها. وحينما رُفعت هناك السماعة وقبل أن يجيبها كانت تسمع صوته يجلجل في المكتب كدوي الرعد وخجلت من نفسها وأصابها برود سرى في كل مناطق جسدها وأعادت السماعة. ثم انتابتها حالة تشبه الحلم مشوبة بالتساؤلات هل من الوهن تُستمد قوة؟ وهل من الضعف ينشأ العنف والصلف والشدة؟ هل هما نقيضان متكاملان؟ وتخيلت أن جذع الشجرة الضخمة الغليظة كان وريقة ندية، وأن الحوت الجبار والأسد الهصور كانا ماء واهياً وأن البرق المحرق طيف ضوء، وأن الإعصار المدمر كان نسمة ريح!!