على رصيف مهمَل في أحد الشوارع الخلفية في وسط القاهرة قاهرة المعز استيقظت هذه المدينة المكتظة بالبشر حد التخمة على جثة الأديب السوداني الشاب محمد حسين بهنسي مغطاة ببعض الخرق البالية وصفحات الجرائد القديمة، وذلك بسبب البرد القارس والجوع والإهمال والتشرد، ولكن قبل كل ذلك، من تنكر المؤسسات الثقافية وجفاء الناس. لقد كتبت تلك الجثة الملقاة على قارعة العار وناصية النسيان، النسخة الأحدث للرواية العربية المأساوية التي تصدر بين الحين والآخر عن الرحيل المر والنهاية المفجعة للمبدع العربي. قائمة طويلة جداً حد الألم والحزن من الأدباء والشعراء والروائيين والكتّاب والمثقفين والفنانين والموسيقيين أصحاب النهايات الفاجعة والرحيل المأساوي. يبدو أن هذه الحكاية الميلودرامية الأخيرة التي كتبت فصولها في شوارع القاهرة، بل في كل الشوارع العربية من المحيط إلى الخليج، تؤكد عمق التراجيديا العربية، والتي تُصور الواقع العربي الحقيقي أكثر مرارة ووجعاً ودهشة من المشاهد السينمائية والحبكة الدرامية. لقد شكلت هذه "الفضيحة الأخلاقية" وصمة عار في جبين الثقافة العربية، سواء الرسمية أو الشعبية، هذه الثقافة التي تحولت إلى حاضنة حانية لبعض المثقفين المنتفعين والمطبلين والمزمرين الذين لا يملكون مشروعاً ثقافياً حقيقياً، بينما غاب أو غُيّب المثقف التنويري الذي يحمل همّ مجتمعه، ويُمثل الضمير الحي لأمته. رحيل "بهنسي"، بل كل مثقف ومبدع عربي، بهذا الشكل المعيب والمخجل والموجع، يُمثل صرخة مدوية في وجه الضمير العربي، واحتجاجاَ قوياً ضد سياسة الإهمال والنكران والفرز الثقافي. وتُعتبر مسيرة هذا الأديب السوداني الشاب حافلة بالكثير من الإبداع والتميز والأحداث، إذ تُزين لوحاته ورسوماته قصر الإليزيه في فرنسا، وعُدت روايته الشهيرة "راحيل" منعطفاً مهماً في بروز الرواية السودانية والعربية، حيث اعتبره بعض النقاد السودانيين والعرب ميلاداً حقيقياً لطيب صالح جديد. ولد محمد حسين بهنسي في أم درمان عام 1972م، ودرس في جامعة الخرطوم، وبرع في أكثر من مجال في عالم الفن والأدب كالرسم والتصوير والشعر والرواية. عاش في فرنسا عدة سنوات وشارك في معارض فنية عالمية، وتزوج من فرنسية وأنجب منها طفلاً، ولكنه انفصل عنها لخلافات عائلية، وعمد والد الزوجة إلى ترحيله قسراً من فرنسا، ما تسبب في سوء حالته الصحية والنفسية. عاش بعدها في السودان في عزلة تامة، خاصة بعد وفاة والدته. كانت القاهرة "ملاذه"، بل محطته الأخيرة، حيث سكن منطقة العتبة إلى أن تدهورت أوضاعه المالية والنفسية بسبب التشرد والإحباط والفقر، وأخيراً "البرد القارس" الذي أطلق رصاصة الرحمة لتُنهي قصة مبدع عربي، كان من المفترض أن تُعلق صوره على شوارع ونواصي المدن العربية، لا أن تُرسم لوحته/جثته الأخيرة بخرق بالية وصفحات الجرائد القديمة في أحد الشوارع الفقيرة!! إن النهايات المفجعة والخاتمات الأليمة للكثير من المبدعين والمثقفين والفنانين والرياضيين تُشير إلى واقع مزر في طبيعة المؤسسات الثقافية العربية، بل وفي ذهنية الفكر والمزاج العربي على وجه العموم. فكيف تتنكر الحكومات والمجتمعات والشعوب العربية لمبدعيها ورموزها وأيقوناتها، ليكون مصيرهم المؤلم في غياهب النسيان والنكران، وحتفهم الموجع مشردين ومتسولين وجائعين؟ ألم تكن القبائل العربية القديمة تتفاخر بشعرائها وخطبائها وفرسانها؟ ألم تكن الرموز والشخصيات العربية هي أحد الأسباب الرئيسية لشهرة المدن والدول العربية؟ إن الأمم والمجتمعات والشعوب المتحضرة والذكية، غرباً وشرقاً، أدركت مبكراً أهمية الاهتمام والعناية والاحتفاء بنوابغها ومبدعيها، لأنهم يُمثلون ثروتها الحقيقية وكنزها الكبير ومعينها الذي لا ينضب. يبدو أن الوقت قد حان لكي تتم الكثير من المراجعات والإصلاحات والتغييرات في هذه الثقافة العربية بامتياز، والتي تعكس الصورة المشوهة التي يحملها صنّاع القرار وبعض المتنفذين، بل والكثير من النخب والشرائح الأخرى لمكانة وقيمة المثقف والمبدع العربي. فالأمم والمجتمعات والشعوب التي تضع مبدعيها الحقيقيين في صدارة مشهدها الوطني والثقافي والاجتماعي، وتقوم باستثمار هذا العنصر البشري الاستثنائي بالشكل المناسب، ستحصد الفخر والإلهام والمكانة، بل والتطور والتنمية والازدهار. وأخيراً، كم أتمنى أن لا توجد هذه المفارقة العجيبة بين شوارعنا وشوارعهم، فبينما تزدان الشوارع الغربية والشرقية بأسماء وتماثيل ومنحوتات ورسومات رموزها ومبدعيها، تقسو شوارعنا العربية بل طبيعتنا العربية على مثقفينا ومبدعينا، ليكون مصيرهم المحتوم تلك النهايات المؤلمة، إما بالتشرد أو التسول أو الجوع أو البرد القارس أو بأشياء أخرى أخجل من كتابتها. للأسف، شوارعنا ليست كشوارعهم..