للأمطار مواسمها ورائحتها الخاصة، التي تستعيرها من «الغيمات»، لتعلن الروح التوحد مع الطبيعة واستعارة جمالياتها، والدخول إلى عالم خاص من عوالم البحث عن هوية الذات في نقل الواقع والجمال إلى المجال الإبداعي. المطر يحمل لنا بين قطراته عالماً خاصاً يعيشه المبدعون في حالة توحد مع جماليات المكان وتجليات الطبيعة، زخاته لها تأثير على الذات الإنسانية، أجواؤه تمنح الروح ترف السكون والاسترخاء والاستمتاع بإشراقات الطبيعة، هو يرتبط بذكريات تتهافت كلما عاود الهطول، وركض الناس لممارسة الاختباء، يجلسون تحت مظلات الوقت، يرقبون قطراته ويستمدون منه «عبق» الحكايات العتيقة، ويلتفون حول مدفأة الوقت يستمطرون الذكريات. هكذا هو المطر إذا ما نشر قطراته ترفاً على الأرض ليكسوها بالاخضرار، وإذا ما داعب الغيم لوحات السماء أورقة هذه القطع البلورية التي تبعث في النفس النقاء، إنها لحظات الرحمة والمغفرة التي تهطل فيها قطرات من السماء لتغسل الهواء والأرض، والتي نحتاج أيضاً أن تغسل قلوب البشر، يتألق المطر في زوايا الكون، ويشع بوابات الدعاء في التفاتة السماء نحو جدب الأرض وتجلياتها، إنه حقيقه الحياة التي تنتشي بزخات هذا القطر والرحمة. يغسل المطر كل ما تراكم من صدمات ومواجع انعتاق الغيم المطر، هذا الشراع الإنساني موجه للعودة إلى الذكريات والالتفاف حول النوافذ لرؤية انعتاق الغيم وانبلاجه عن زهو مطر «كريستالي»، يغسل الروح بموجات من الفضة، فتنتشي المسافات، وتتآزر ضحكات الطفولة لوجوه الصغار، وهم يحتفون بهذا الزخم القادم من عنان السماء، في لوحة ربانية لا تغيب عن العين ولا يخطئها البصر، نعم إنه المطر. من منّا لا تفرحه قطراته، فالمريض يعود بذاكرته إلى أيامه وهو متعاف فيصطبغ وجهه بلون العافية، ينظر إلى نافذته وتلك «القطرات البلورية» الباسمة تُلقي عليه التحية، فيأنس ويدعو الله فرحاً مبتهجاً، ويجلس بشهية تنتظر حساءاً ساخناً بيوم بارد ممطر، الحزين ينسى حزنه وينعتق مع اللحظة، ويستسلم لأجواء روحانية تذكره أن لا شئ يستحق أن يحزن عليه، المسافر يشتاق إلى رائحة بلادة والعودة مجدداً ليغتسل بماء قريته، ويركض تحت المطر كالطفل الذي لا يهتم بتبلل ملابسه، المشتاق الذي يذكره المطر بجمال محبوبه ويبعث برسائل محبة مغلفة بقوس قزح، ومعطرة برائحة التراب المبلل. حتى الأرض تكون أكثر سعادة بهطول المطر عشق وألم المطر هو حالة من استنطاق الوجد والطبيعة والذكريات لطفولة المواسم، لمواسم الحماقات والندم، لاستنطاق مواسم لا علاقة لها بالفصول، للعشق والألم، للاعترافات والأمنيات، للقطارات التي ستسافر من دوننا، والطائرات التي لن تأخذنا إلى أبعد من أنفسنا، هنالك في أعماقنا ركن لا يتوقف فيه المطر، نجد فيه كل ما ضاع منا، نجد حُباً خُلق للبقاء، وحُباً لم يُبقِ على شيء، كراهية لا يضاهيها حُب، وحُب في شراسة الكراهية، ونسيان أكثر حضوراً من الذاكرة، كذب أصدق من الصدق، ومواعيد وهمية أكثر متعة من كل المواعيد، ودائماً نجد بذلك الركن مشروعات لم تكتمل، ولحظات توقف بها الزمن عند لحظة سقوط المطر، لحظات تمر عمراً، وعمر يحتظر في لحظة، وفراق أشهى من ألف لقاء، ويتسع المكان إلى خلافات أجمل من أي صلح. يحمل المطر بين قطراته عالماً خاصاً من الفرح همس التفاؤل المطر، هو قطرات من الطهر والنقاء، حياة تهب للإنسان ليبدأ من جديد، ويمعن النظر في الماضي ليرى الأشياء من بعيد، ليراها بوضوح أكبر، ولتعطينا فرصة لرؤية العالم بعين جديدة وبقلب دافئ، عندما يطرق المطر نوافذنا بحنين الدفء وشوق المكان المليء بالحب والعطاء نتوه في زحام هذه القطرات التي تتناثر بهدوء ورِقّة، وكأنها تهمس في آذاننا بصوت خافت تفاءلوا مازالت الحياة مستمرة ومازال الأمل موجوداً، المطر بجماله وحضوره الطاغي كفيل برسم الابتسامة على محياك، حتى وإن كانت حالتك المزاجية متكدرة، لتنسى معه همومك، أول شعور ينتابك هو الحنين إلى كل شيء، لطفولتك، إلى قلوب افتقدتها، إلى كلمات اشتقت سماعها، إلى لمسات حانية، إلى لحظات جميلة تمر بك ك»شريط فيديو» يضيئ بفلاشاته المخبئ بعمق الذاكرة، التي تدع لشهوة المطر نبشها وإخراج ما بها في لحظات حميمية. بث العطر المطر يستشعر روحك، يجعلك تتذكر صفاتك الجميلة، حياتك الماضية، وكأنه يحاسبك على كل خطوة سابقة، يجعلك تجلس مع نفسك، يرتقي بك من متاعبها، ويغسلها من كل ما تراكم فيها من الصدمات والمواجع ومواسم البكاء والدموع الصامتة، فالعاشقون لهم حكايات مع المطر، فهو «رذاذ» يُنعش روحهم، وديمة تروى أيامهم، وغيث حين يحتاجون لمن يحبون، وودق لكل المواسم، وحميم حين يلسعهم الغياب. إذ أمطرت تنهض جميع المشاعر لتغني مع «السيَّاب» أغنية المطر: «مطرٌ.. مطر»، وتشتاقُ الأرض إلى العزف مع الريح لبث العطر في رئة الزهر، وتغني الحرية أغنية «قوس قزح»، وتأتي السعادة تختال في مشيتها لتزرع نفسها داخل القلوب بكل ثقة، ملابسنا بالحُب تقطر، وقلوبنا بالعشق تودع التصحر، لتعلن بداية مرحلة جديدة مع أول قطرة هطلت، إلى حكايا ينبض بها، بخفقاته الهاطلة على الوجنات والأنامل على الطرقات أو حتى في أحضان الموج، لتجذبنا قطرات المطر حين تمتلأ بها الشبابيك، وتزهر الأغصان وتطرب الطيور بأعشاشها فرحاً، وتلبس الأرض حلتها الربيعية مرجاً أخضر، فيعود رونقها، وتتورد. هكذا هو المطر ضيف الكل يحبه وينتظره بشغف، تسر الأبصار بالنظر إليه، وتترطب به الشفاه، ويبلل أوردة القلوب، فتزهر جنائن القلوب فرحاً.