من المشاهد التي اعتادها سكان الجزيرة فترة من الفترات وتتكرر مع موسم كل حج. مرور ما كان يطلق عليهم دراويش الحج القادمين من أقطار بعيدة سيرا على الأقدام، أو ممن ضل القافلة ان لم يكن ممن يسير على أثرها فيفقد هؤلاء وجهتهم ويهيمون بحثا عمن يرشدهم وجرت العادة أن يستضيفهم سكان القرى والبوادي ويقدمون لهم المساعدة ومؤنة الطريق لكنهم يبقون في كل الأحوال عرضة للّصوص والمبتزين الذين يسلبون ما معهم أو يتقاضون منهم مبالغ كبيرة نظير مساعدتهم للحاق بالقافلة وقد عايش المستشرق بريطاني الجنسية سويسري الأصل بيركهارت سنة 1814 م واقعة حقيقية كما يقول، ذكرها في كتابه رحلات إلى شبه الجزيرة العربية أثناء مرافقته للقافلة المتجهة من مكة للمدينة بعد انقضاء الحج، لحاج ملاوي ضل وجهته واحضره اثنان من أبناء الصحراء رفضا تسليمه ما لم يدفع المبلغ المتفق عليه مسبقا مع التائه قال في تفاصيلها: وقع حادث هنا ألقى الضوء على نقص الإحسان والمعروف لدى زملائي المالاويين، وكان هناك العديد من الملاويين الفقراء المعوزين الذين يعجزون عن دفع أجرة جمل، فكانوا يلحقون برفاقهم سيرا على الإقدام، وبما أن رحلاتنا الليلية كانت طويلة جدا، كان هؤلاء الرجال يصلون بعد ساعة أو اثنتين أحيانا من توقفنا في الصباح، وقد أحضر احدهم رجلان أخبرانا أنهما وجداه يهيم في الصحراء فوعدهم بدفع عشرين ليرة، إذا ما أرشداه إلى القافلة، وانهما توقعا أن يقوم أصدقاؤه بدفع ذلك المبلغ، لأن الرجل كما رأياه كان مجردا من المال، وحين رأيا ان أحدا من مجموعتنا لم يبد استعدادا لدفع جزء صغير من المبلغ، وأن الجميع قد أنكر أي معرفة بالرجل الذي كما قالوا انضم إلى القافلة عند الانطلاق من مكة، دون أن يكونوا على معرفة بشخصه، أعلن الرجلان أنهما سيأخذان الثوب الهزيل الذي يرتديه، وسيحتجزانه في خيمتهما حتى مرور أحد الملاويين الذي قد يطلق سراحه. وحين كانت القافلة تتأهب للانطلاق قبضا عليه وجراه إلى مسافة قصيرة باتجاه الأشجار، وقد تملكه الخوف لدرجة أنه فقد القدرة على الكلام، وسمح بأن يأخذوه بعيدا دون أن يبدي أي مقاومة ولم يكن أي دليل ممن يرافقنا ليضاهي أحد أفراد قبيلتهما، وهي قبيلة يخشاها الجميع بسبب الوحشية والهجومية اللتين يتسم بهما طبع أفرادها، كما أنه لم يكن من قرية (رابغ) أي قاض يستعان بسلطته ومساعدته، كما كان للرجلان مطلب شرعي عن سجينهما، ولم أكن لأقوم بعمل سخي بدفع فديته بنفسي، غير أني كنت اعتقد أن ذلك هو واجب يقع على عاتق مواطنيه الملاويين، لذلك فقد سعيت جاهدا لإقناعهم بالدفع. في الواقع لم التق في حياتي بأشخاص قساة القلوب عديمي الإحساس مثلهم، فقد أعلنوا بالإجماع عدم معرفتهم بالرجل، وبالتالي فهم غير ملزمين بتحمل أي مصاريف لأجله، وكانت الجمال محملة فقد وضبوا الأمتعة كلها وكان قائد القافلة يهم بالانطلاق حين تعالى صراخ الرجل البائس موضوع الخلاف، وقد انتظرت هذه اللحظة، فقد عمدت إلى إيقاف جمل القائد وجعلته يقع أرضا ثم قلت عاليا إن القافلة لن تتابع المسير حتى إطلاق سراح الرجل، معتمدا فيما فعلت على الاحترام الذي كنت أتمتع به في القافلة إذ إنهم كانوا يظنون أني حاج على صلة ما بجيش محمد علي مستندا كذلك على الود الذي حصلت عليه من كل دليل في القافلة عبر توزيع المؤن بينهم مجانا منذ أن غادرنا مكة، ثم تنقلت من جمل إلى آخر وأخذت من كل واحد عشرين باره أي ما يعادل نحو ثلاث بنسات، وذلك عبر قذف الملاويين ونسائهم بالشتائم ومن خلال التعارك مع بعضهم، وبعد نضال طويل جمعت عشرين ليرة وحملت هذا المبلغ إلى الرجلين اللذين بقيا على مسافة قصيرة مع سجينهما، وبعد أن عرضت عليهما حالته البائسة، والتمست شرف قبيلتهما، جعلتهما يقبلان بعشرة دراهم، وعلى وفق مبادئ قواعد السلوك التركية الحقيقية، كان يجب أن أحتفظ بالليرات العشر الباقية كتعويض لما قمت به، غير إني أعطيتها للرجل الملاوي الفقير لأشعر مواطنيه بالخزي والعار، وكانت النتيجة أن أبعدوه كليا عن مجموعتهم خلال الرحلة والقوا به بين يدي أنا إلى أن وصلنا إلى المدينةالمنورة، وخلال إقامته هناك وقد عقدت النية على إعطائه ما يساعده على العودة إلى ينبع، لكني ما لبثت أن مرضت مرضا شديدا بعد وصولي إلى المدينة، فلم أعلم بعدها ما حل به. كان العديد من الحجاج يلتمسون الصدقات في سوق رابغ إذ إن هؤلاء الفقراء يتوهمون عند الانطلاق من مكة إلى المدينة مع القافلة الكبيرة بأنهم من القوة ما سوف يمكنهم من تحمل مشقات تلك الرحلة وهم يعلمون أن الحجاج المحسنين يمكن العثور عليهم عبر السفر مع القافلة فيزودونهم بالطعام والماء، لكن المسافات الطويلة التي نقطعها ليلا لا تلبث أن تنهك قواهم فيبدؤون في التباطؤ في الخلف على الطريق، وبعد حرمان كبير وتأخر يجبرون على مواصلة رحلتهم بوسائل أخرى، وقد انضم حاج أفغاني هنا إلى مجموعتنا، وكان رجلا مسنا يتمتع بقوة جسدية كبيرة ومميزة، وقد أتى على الطريق كله من (كابول) إلى مكة سيرا على الأقدام، وكان ينوي العودة بالطريقة نفسها، وقد أسفت لعدم معرفته باللغة العربية إذ بدا رجلا ذكيا كان بإمكانه تزويدي بمعلومات مهمة عن بلده. إبراهيم بن عبدالله(بيركهارت)