الحج درس عظيم من رب حكيم عليم، فرضه درساً عملياً يبين لهم الحقيقة في التساوي، يجتمع المسلمون في مكان واحد غير متسع المساحة حيث يبلغ طول امتداد كل المشاعر مع بعضها قرابة 25 كم بعرض يصل إلى حوالي نصف هذه المسافة والله قادر على أن يجعل مساحة المشاعر قارة كاملة ولكن اقتضت حكمته هذا الحد. أما العدد الذي يشغل هذا الحيز فلا تحديد له فقد يصل إلى مليوني حاج في الوقت الحاضر وعلم المستقبل عند الله. وعندما تقف على الطريق الموصل للمشاعر وتتفقد الحجاج تنظر إلى مظهر واحد، لا تميز بين الفقير والغني ولا بين الرئيس والمرؤوس ولا بين نسب وآخر ولا وضيع ورفيع وقد لبس الجميع اللباس الموحد بغية المغفرة وطاعة لله عز وجل ورجاء القبول والفردوس الأعلى من الجنة، لا يستطيع أحد من الحجاج تغيير أو تبديل الزي الموحد ولا يستطيع أن يجعل له لباساً يميزه عن غيره ليعرف من يكون أو تعرف مكانته الاجتماعية أو يعطي انطباعاً عن دوره الاجتماعي ووظيفته وفي الوقت نفسه ليس هناك سلطة دنيوية تقف له بالمرصاد تمنعه أو تسمح له، بل جعل الرقيب عليه من ذاته بعد إرشاده تريد القبول والمغفرة فهذا لباسك، وإن كنت لا تريد فأنت حر، لكن لا قبول لك إن لم تلتزم من نفسك التكبر هنا لا يصلح والتعالي لا مكان له وكل سلطات البشر تقف خارج المشاعر، الأمر لله جميعاً. إن الفوارق بينهما قد زالت، فلا مطامع في هذا المكان، فالمسكن بسيط واللباس كذلك، والظروف المحيطة واحدة، في الحر والبرد والشدة والتعب والمعاناة، لم تكن مدة الحج طويلة وفي قصر المدة تركيز على هذا الوضع الذي تذوب فيه الفوارق، فالغني لا يمكن أن يوجد مسكناً غالياً لا يسكنه سوى خمسة أيام في عمره كله كما أنه أيضا لا يستطيع ذلك، والجمع الكبير من الحجاج يناسبهم ما قل وزنه وعدده وخف من كل شيء في هذه الحياة، برغبة فيما ثقل في الدار الآخرة. انظر وأنت في المشاعر المقدسة، يتجلى لك التساوي بين الناس والتوافق في عملهم، لا اعتبار للأجساد ولا لبياض الجلود أو السواد، ولا لجمال الصوت والإنشاد، ولا لمن كان في قومه قد ترأس وساد. عندما نجلس سوياً في خيمة تقينا حر الشمس أو بلل المطر، نكون في حديث مثمر، أو نسمع قول واصف للأحداث حولنا مخبر، أو واعظ بالقول مؤثر، فيتبين لنا بعد التقصي والسؤال أن هذا كان وزيراً، أو دكتوراً، أو تاجراً أو صاحب منصب من أي نوع كان، ليس عليه علامة تميزه، ولم يطمع وهو في هذا المكان بألقاب، ولا يشعر أنه لمثل هذا محتاج، بل تجده متوجهاً لربه بقلبه وجسده يرجو رحمته ويقدم ما صلح من النية والعمل، ويرجو من ربه أن يتغمده برحمة من عنده، أناس وقفوا موقفاً فريداً من نوعه، لا يطمعون في إشعار أنفسهم ولا إشعار ما حولهم بما لهم من ميزات دنيوية فقد انسلخوا منها، لأنها هنا تذوب، ليس لها في مثل هذا الموقف معيار، فيتذكرون يوم الجمع الأكبر يوم جمع الخلائق في صعيد واحد يوم البعث، فهذا اليوم الدنيوي يتقدم شريحة من المسلمين يصل تعدادهم إلى مليوني حاج يزيدون أو ينقصون لا يهم لكنهم يمثلون العينة والنموذج فيعطون صورة الموقف العام الذي يجب أن يعيه العالم كله، وأنهم في ذاك اليوم مجموعون لا ريب إنه يوم القيامة، وأن البعث قريب، وأن النجاة لا تكون بالمال ولا بالولد ولا بشيء من الدنيا بل تتحقق بالتقوى وقبول الله عز وجل للعمل الطيب ورحمته بمن آمن وعمل صالحاً. كل الحجاج لديهم القناعة التامة أنهم يؤدون ديناً عبادة لله وحده، يحتاج منهم إلى ضبط تام في الأخلاق والعلم والتطبيق، فالأذية تنقص العمل، والتباغض تبيد الأجر، والتعالي يحبط المقاصد، والعزة والكبرياء ليست لأحد من الخلق بل هي لله وحده، من نازعه فيهما قصمه، فليست المسألة مسألة ذكاء سياسي، أو مناورات عسكرية، أو تحايل اقتصادي، أو خداع دعائي، أو ضغط من تكتل قوي، أو تأثير إعلامي، إن الأمر صدق دين، وصدق إيمان، وصدق عمل، وتوجه مخلص ورحمة تتنزل على من رحم الله وطيب نيته فيسعد بها سعادة أبدية، نسأل الله أن نكون ممن يرحمهم الله برحمة من عنده. ولأن هذه المشاعر لا يتكبد إليها القاصد ويتحمل مشاق السفر إلا من إيمان يحدوه ومطمع في الله يرجوه لذا فهو يقدم برصيد إيماني وزاد من التقوى يتصرف بموجبه كأصيل عن نفسه في تطبيق ما فرضه الله عليه، وكنائب عن المسلمين جميعاً ليعطي صورة للإسلام وللسلوك القويم وللأخلاق التي يجب أن تسود الأرض والعلاقات البشرية. إن التفرقة العنصرية والطبقية التي يرفضها العالم اليوم وينادي بتحريمها نظرياً وتحرمها كثير من الأنظمة والقوانين ولا تطبق بالفعل إلا بقدر ما يحقق المصلحة لمن أوجد مثل هذه القوانين، مرفوضة قولاً وعملاً جملة وتفصيلاً أصلاً وصورة لدى المسلمين فهي في الإسلام محرمة وهذا التحريم جزء لا يتجزأ منه، فلا فرق بين الناس بلون وصورة ولا أي ميزة إلا بالتقوى. وعندما نتبصر في التقوى نجد أنها لباس يفرح من لبسه بأن يعم هذا اللباس والزينة الجميع وينضوي تحته الخلق أجمع وهي مشجع للأقوام على التآلف والتناصح والتعاون والقضاء على الظلم والعدوان وأسباب التفرق والنزاع، بعكس ما عليه العنصريات التي تجمع اللون للقضاء على اللون الآخر، أو تحصر الأفضلية في الدم الواحد حتى لو كان صاحب الدم المزعوم فاسد الخلق صاحب ظلم وفجور، بل إن العقل يرفض مثل تلك القوانين التي تميز الأشخاص بغير الميزة الربانية التي جاءت في كتابه العزيز، إنها التقوى، مفتاح الصلاح والفلاح وقائدة العالم إلى الخير والفلاح، لا يمكن أن يفسد مجتمع والتقوى خيوط نسيجه، ولا يمكن أن يزل وهي لحمة أفراده والثواب التي تضبط مساره، ولا يمكن أن يضل وهم مهتدون بالدين الإسلامي. ولنعد إلى المشاعر، تلك البقاع الطيبة الطاهرة، التي فيها يطبق ركن ينطق للعالم كله بحقيقة تقول: هذه صورة التلاحم الصادق، ولا شيء غيرها يمكن أن يكون بديلاً، وهذا هو السبيل لا تحاولوا البحث عن وسائل تجمع الأمم ولديكم المنهج الرباني، فإن تفكيركم وقتي، محكوم بالعصر ومتطلباته، والحاضر ومعطياته، وتفكيركم وإمكاناته، وكلها لا تنفع إذا ما تبدلت الظروف وتغيرت الأحوال، لكن منهج الله لا يتبدل ولا يتغير، وهو صالح في كل وقت ولكل زمان وفي كل مكان.. نسأل الله أن يهدينا جميعاً ويجعلنا من أهل الصلاح والفلاح وأن يهبنا من لدنه عملاً صالحاً وحسن خلق وأن يفتح لنا أبواب الفضل والرحمة إنه سميع مجيب.