طف بي بمكة إني هدني تعبي *واترك عناني فإني ها هنا أربي ودَعْ فؤادي يمرح في مرابعها* ففي مرابعها يغدو فؤاد حبي الاجتماع والاتفاق سبيلنا إلى القوة والنصر ، والتفرق والاختلاف طريق الضعف والهزيمة ، وما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بالوحدة والتلاحم بين أفرادها ، وتوحيد جهودها ،والتاريخ أعظم شاهد على ذلك ، ولذا جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- تدعو إلى هذاالمبدأ العظيم ، وتحذر من الاختلاف والتنازع ومنها قوله تعالى{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } ( الأنفال 46) ، وفي حديث أبي مسعود : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة ، ويقول : استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) رواه مسلم . والحج موسم عظيم ، تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهى مظاهرها وأجمل حللها ، حيث تذوب الفوارق ، وتتلاشى الحواجز ، ويجتمع المسلمون في مشهد جليل ، يبعث على السرور، ويسعد النفوس ويبهج الأرواح. « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» قرب يوم عرفة، واجتماع الناس في ذاك الصعيد بلباس واحد في مكان واحد لعبادة رب واحد وإتباع رسول واحد، لا يميزهم لون ولا عرق ولا جنس ولا لغة ولا دم، بل يحرمون في إزار ورداء أبيضين، الملك والأمير والعالم والمتعلم والغني والفقير والأبيض والأحمر والأسود والعربي والعجمي، فأي وحدة كهذه الوحدة؟ وأي مساواة كهذه المساواة؟ لقد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً في صعيد عرفة وأمامه أبو بكر القرشي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وهو يقول للعالم: «كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى»، فديننا سبق كل الدساتير والقوانين الأرضية الوضعية بإعطاء الإنسان قيمته وإكرامه والاعتراف بحقوقه، وقد أخذ كثير من المصلحين والمجددين والعلماء والحكام مكانتهم بغضّ النظر عن أصلهم وحسبهم ونسبهم و بشرتهم كبلال وعمار وصهيب وسلمان وأبي حنيفة وسيبويه والبخاري وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وآلاف مؤلفة من النابغين المتفوقين، بل إن قيادة العالم الإسلامي توزعت ما بين عمر العربي، وصلاح الدين الكردي ونور الدين التركماني، ومحمد الفاتح التركي، وقطز المملوكي وسواهم، ومن كان في شك من ذلك فليشاهد الحجيج وقد لبسوا البياض شعثاً غبراً متجردين من اللباس والزينة والطيب، فلا تميز غنياً من فقير ولا رئيساً من مرؤوس، الملك والخادم في زيّ واحد وصفّ واحد ومكان واحد، وهذا العدل والمساواة لم تأتِ بصناديق اقتراع ولا بانتخابات مزوّرة ولا لوبي يتحكم بالمال في ضمائر الناس ولا رشوة ولا دعايات وإعلانات، وإنما جاءت من عند الله بصدق وحق ووضوح وصراحة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، فنحن المسلمين جمعية كبرى فيها الممتاز والجيد والمقبول: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ»، أما كان بلال ابن رباح يصعد بسواده على سواد الكعبة ليعلن كلمة الحق في أذانه «أشهد أن لا إله إلا الله»؟ أما ورد في الأثر «سلمان مِنّا آل البيت» أي: سلمان الفارسي؟ وقد عين سلمان أميراً للمدائن من قِبَل عمر،إن تاريخنا الإسلامي المجيد في القرون المفضلة أدهش المؤرخين وأذهل المطلعين، وما من فضيلة عند الأمم المعاصرة إلا وقد سبقهم الإسلام لها، ولكن المشكلة أن غير المسلمين ينظرون إلى واقع المسلمين الآن فيجدون صوراً من الاستبداد والظلم والقهر والجهل والفقر والتطرف فينسبونها إلى الإسلام، وهي تصرفات المسلمين حين ضعف تمسكهم بالدين فوقع التفرق والاختلاف وكأنه عرف للمسلمين لا ينبغي الاقتراب منه، ونحن الذين أمرنا الله بالوحدة والاعتصام حول كتابه ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103). مظاهر الوحدة في الحج . روعة في المظهر لا يمكن أن تُقاوَم، تتجلَّى في زي موحَّد أبيض ناصع، وكأنه إعلان موحَّد بالرغبة في الطهر والنقاء والبراءة من ذنوب عمر طويل، ورسالة واحدة إلى العالم كله بالحب والسلام.لمن أراد السلام مع المسلمين والجميع يعلم أن الخروج عن قوانين الوحدة في الحج يعني سقوط الفريضة نفسها، كما يعني الخروج عن قوانين الوحدة بين المسلمين في الحياة فشلَ المسلمين وذلَّهم وهوانَهم وتمكُّنَ أعدائهم منهم إلى الحدِّ المأساوي الذي نراه كل يوم. ورغم روعة مظهر الوحدة، إلا أن الأكثر روعةً هو جوهر الوحدة نفسها.. هو تلك الوحدة الشعورية الخفية التي تُشعِر المسلم بأن كلَّ من حوله إخوة له حتى وإن كانوا على غير لغته، أو كانوا من بلدٍ بعيد لا يعرفه، أو كان اللقاء لأول مرة، لا يعرف اسمه أو عائلته أو وظيفته أو وضعه الاجتماعي؛ يكفيه من ذلك كله أنه مسلم؛ فذلك يكفي لتنطلق مشاعر الحب والتعاون والإخاء بين الجميع، مهما تباعدت المسافات واختلفت الألسنة. إنه الشعور الذي يحتاجه كل المسلمين اليوم؛ يحتاجون إليه كي يشعروا بإخوانٍ لهم في بلادٍ طغى فيها الظلم وتجبَّر، كفلسطين، وبلادٍ تتجسَّد فيها المأساة كل يوم، كالعراق. إنه شعور يحتاجه المسلم ليقف إلى جوار أخيه في أي مكان يشعر بمعاناته، فلا يؤذيه، ويبذل المحاولات لمساعدته ونجدته وتخفيف ما به من ألم حاجة المسلمين الشديدة إلى الوحدة الحج مؤتمرٌ يدعو المسلمين كل عام إلى الوحدة فيما بينهم.. درس سنوي بضرورة التوحُّد لمواجهة الأخطار التي تحيق بهم؛ كي يحققوا ما يرغبون من نهضة وعزة.وتمكين الحج رسالة كل عام إلى المسلمين بأن الوحدة هي السبيل الوحيد للخلاص من حالة الفُرقة والتشرذم التي يشهدها الجميع، وإنها الحل الوحيد لكسر حالة الذل والهوان التي تجلب عليهم الويلات كل يوم.وتطمع فيهم العدو ( ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سما عون لهم ) إلا أن المسلمين مُصِرُّون على ألا يستوعبوا الدرس، مُصِرُّون على أن يقطعوا آلاف الكيلومترات، وينفقوا الأموال الطائلة، ويتحملوا المشقة والألم، و تلهج ألسنتهم بالدعاء والابتهال، ثم يعودون كما كانوا متفرقين، لا يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه.الا من رحم ربي .ولن تقوم للمسلمين قائمة إلا بالوحدة فيما بينهم، تلك النتيجة التي توصَّل إليها أعداؤهم منذ زمن، فخططوا لضربها شر تخطيط، ووضعوا قنابل موقوتة بين الإخوة ليصبحوا أعداءً، وأصبح من المسلمين من يتخذ من أعداء الله أولياء ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ان تصيبنا دائرة ) شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات وذلك ماضي مجدهم وفخارهم فما ضرهم لو يعملون لآتي وهذا زمان أرضه وسماؤه مجال لمقدام كبير حياة مشى فيه قوم في السماء وأنشؤوا بوارج في الأبراج ممتنعات فقل رب وفق للعظائم أمتي وزين لها الأفعال والعزمات ويعلِّمنا الحج أن الوحدة بين المسلمين تقوم إذا صدقت النوايا وصفت النفوس، لتصبح كملابس الحجاج؛ بيضاء ناصعة، فتسمو بالتسامح، ويتجاوز المسلمون خلافاتهم، ويسعون إلى التعايش فيما بينهم، مهما كانت درجة الخلاف في الرأي أو الفكر.ما لم تصادم قطعيات الدين وثوابت العقيدة يعلِّمنا الحج أن الوحدة لن تتحقَّق إلا إذا تعلَّقنا بالآخرة، وتوجهنا جميعًا إلى الله بنفوسٍ يملؤها الرجاء والخوف.. نفوس تعي أن الفرقة ستجلب غضب الله حتى نعتصم تحت لوائه.( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم باس بعض ) يعلِّمنا الحج أن الوحدة لن تكون إلا إذا تحاملنا على أنفسنا وبلغنا المشقة وأنفقنا الأموال في سبيل الله لننهض بأمتنا ونكيد أعداءنا.يعلِّمنا الحج أن الوحدة حلم يمكن تحقيقه وإن طال العمر، ولكن لا بد أن يسبق الحلم رغبةٌ صادقة يتبعها تضحية وعمل مخلص جاد. وحدة المجتمع لا تعني وحدة المسلمين وحدة سياسية بين الدول فقط، ولكنها تعني أولاً وحدة المشاعر كإخوة في الله، فينصر الأخ أخاه ويتعاونون فيما بينهم على البر والتقوى.وتتجاوز المجتمعات الإسلامية خلافات الساسة وجاهليات الانتماء العرقي والقبلي والجغرافي فوحدة المجتمع المسلم تدعو إلى التكامل بين أبنائه، وحدة تدعو إلى التكاتف والتكتل في مشروعات خيرية وتنموية من أجل إنقاذ المسلمين من الفقر والتخلف العلمي والضعف التربوي والإيماني. إننا في حاجةٍ إلى أن نتعلَّم فن التجميع لا التفريق، والقدرة على أن نقبل المخالف.. القدرة على أن نختلف دون أن نُعاديَ، وأن نعرف فنَّ التعايش والبناء لا التناحر والهدم. وعندها.. من حقنا أن نحلم ونحقِّق أحلامنا لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم * لبيت طهور الساح والعرصات أرى الناس أصنافا ومن كل بقعة * إليك انتهوا من غربة وشتات تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت * لديك ولا الأقدار مختلفات عنت لك في الترب المقدس جبهة * يدين لها العاتي من الجبهات ويا رب هل تغني عن العبد حجة وفي العمر ما فيه من الهفوات وأنت ولي العفو فامح بناصع من الصفح ما سودت من صفحاتي ومن تضحك الدنيا إليه فيغترر يمت كقتيل الغيد بالبسمات د- صالح التويجري