موسم الحج مناسبة عظمى لإقامة التعارف والتلاقي والتضامن بين المسلمين، ومناسبة كبرى للتعريف بحقيقة الإسلام ومبادئه العظيمة، والتعريف بعظمة هذه المناسبة التي يظهر فيه المسلمون بأحسن صورة وأفضل مظهر من حيث الوحدة والاتحاد ومن حيث القوة والنصرة ومن حيث القوة والعزة ومن حيث حسن التنظيم وجمال الهيئة وشموخ الخلق الكريم، وهو مناسبة عظيمة لمحو الذنوب والأوزار وإزالة آثار الأخطاء والهفوات، وهو مما يؤكد وحدة المسلمين في هذا الموسم المبارك، ولكن كيف يمكننا أن نستند إليها في إعادة اللحمة والتضامن بين دول الأمة الإسلامية؟ منافع كثيرة يبيّن د. محمد بن إبراهيم الحمد الأستاذ بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم والمشرف العام على موقع (دعوة الإسلام): أن الله شرع الشعائر والعبادات لِحِكَمٍ عظيمة، ومصالح عديدة لا ليضيِّق بها على الناس، ولا ليجعل عليهم في الدين من حرج، ولكل عبادة في الإسلام حِكَمٌ بالغة، يظهر بعضها بالنص عليها، أو بأدنى تدبُّر، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين الموفَّقين في الاستجلاء والاستنباط، وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركاتٍ متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة، قال الله - تبارك وتعالى - في محكم التنزيل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحج. ولعل من أعظم منافع الحج تجلي وحدة المسلمين، وتضامن دولهم، فالحج سبب لارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم؛ وفي هذا الارتباط سر بديع يصرف وجوههم عن التوجه شرقاً، أو غرباً؛ فتبقى لهم عزتهم، وكرامتهم، والحج وسيلة لتحقق الأخوة الإسلامية: فالقبلة واحدة، والرب واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، فكل هذه الأمور تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدنيا، ولا ريب أن الحاجة ماسة بل إن الضرورة لتلح على تحقق تلك المعاني بين المسلمين أفراداً، وجماعات، ودولاً. فنحن في وقتٍ نرى فيه كثيراً من أمم الأرض التي لا تستند إلى وحيٍ يزكيها، وينير عقولَها، تتجه إلى الاتحاد والاجتماع، ونبذ الخلاف، وأطراح الأحقاد، وترك الاجترار للمآسي الماضية في الوقت الذي نرى فيه كثيراً من المسلمين شذر مذر، مع أنهم ينتسبون إلى وحي معصوم، يأمرهم بالاجتماع، ويبين لهم أسبابه، ويحذرهم من الخلاف، وعواقبه، ومع ذلك تراهم يتفرقون لأتفه الأسباب، ولا يكادون يجتمعون ولو توافرت لديهم أسباب الاجتماع. فلعل الله - بمنه وكرمه - يهيئ للمسلمين أسباب التآلف، ويصرف عنهم ما يُفضي إلى فرقة وتدابر. الروابط الدنيوية أما د. سليمان بن صالح الغصن أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض فقال: إن الحج يعد أحد مظاهر وحدة المسلمين، وزوال الفوارق والتمايز بينهم إلا بالتقوى، ومن مظاهر ذلك في الحج: وحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة اللباس، ووحدة المقصد, ووحدة الشعائر، وفي مقابل ذلك يتم التخلي - في الحج - عن الروابط والعلائق الدنيوية وتذوب كلها في الرابطة الأقوى وهي الرابطة الإسلامية، وتسمو النفوس عن التطلعات الأرضية الرخيصة، لترتقي إلى الطمع في مغفرة الله ورضوانه، والمسابقة إلى أعلى الجنان. التخلي عن الشعارات ويشير د.إبراهيم بن عبدالله الدويش الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود إلى أن الحج رمز لوحدة الأمة، وعنوان للبذل والتضحية، وتربية على الاستسلام والخضوع والانقياد والطاعة المطلقة لله - تعالى - وحده، وهو دليل الإخلاص والنية الصادقة، وتعبير عن القوة ومتانة العلاقة، وتعميق للأخوة الإيمانية، وتحقيق عملي لتوحيد الصف وجمع الكلمة، ونبذ لكل أشكال الفرقة والعصبية القومية المنتنة، والتخلي عن كل النعرات الطائفية، والشعارات الفئوية والحزبية الضيقة، كما أن الحج عبادة عظيمة، ومدرسة إيمانية جامعة، وشعيرة إبراهيمية جليلة، مليئة بالفوائد والكنوز الثمينة، والمعاني العجيبة، والأسرار البديعة، ولا غرابة، فالله تعالى يقول: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، هكذا هي على الإطلاق، لأنها فوائد كثيرة، ومتنوعة في كل المجالات، دينية ودنيوية: فوائد اقتصادية، وفوائد إيمانية، وفوائد تربوية، وفوائد ثقافية، وفوائد اجتماعية. فهو تجمع إسلامي كبير، ومؤتمر عالمي عظيم قلّ له المثيل، يشارك فيه المسلمون من شتى بقاع الأرض، فهم منذ أن أذَّنَ فيهم الخليل إبراهيم - عليه السلام - بالحج يفدون إلى البيت الحرام كل عام، مختلفة ألسنتهم، متباينة بلدانهم، متمايزة ألوانهم، يفدون إليه وأفئدتهم ترف إلى رؤيته، والطواف به، الغني القادر، والفقير المعدم، ومئات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، فما أروعها من عبادة! وما أعظمها من مناسبة! يجتمع فيها المسلمون في كل سنة مرة، مرددين شعارًا واحدًا، وملبين دعوة من رب واحد، ويجمعهم هدف واحد، وهو حج بيته، وتحقيق توحيده، واللهج بذكره. وقد استبدلوا بزيهم الوطني زي الحج الموحد، لا يتميز شرقيهم عن غربيهم، ولا عربيهم عن عجميهم، كلهم لبسوا لباسًا واحدًا، وتوجهوا إلى رب واحد بدعاء واحد: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ))، فصورة التوحيد في الحج تتجلى عقيدة وهدفًا واحداً للمسلمين، فقد خرج جميع الحجاج وقد نسوا هتافاتهم الوطنية، وتركوا شعاراتهم الطائفية، ونكسوا كل الرايات العصبية، ورفعوا راية واحدة هي راية لا إله إلا الله، يطوفون حول بيت واحد، مختلطة أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، يؤدون نسكًا واحدًا، ضاربين أروع الأمثلة في تحقيق الوحدة الحقيقية للأمة، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى..). يا الله! إنها الوحدة الحقيقة، فمهما اختلفت اللغات، ومهما تعددت الجهات، ومهما تنوعت الجنسيات، فديننا واحد، وربنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ونحن أمة واحدة، على الرغم من أنف الأعداء وكل من حاول تشتيت هذه الأمة، فما أجمل استثمار الحج لتوحيد كلمة المسلمين! وما أجمل استثمار المناسبة لجمالقلوب وتصفيتها! وما أجمل تذكير وتوجيه الحجاج بل كل المسلمين لهذه المعاني ! {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وكل عاقل يدرك أنه لا يمكن تحقيق هذه الوحدة، إلا بتوحيد المنهج، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: ((لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)). وقال في آخر حياته: ((لقد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي))، فالمسلمون في جميع أمورهم منبعهم واحد، ومنه يصدرون وإليه يرجعون، هو كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا اعتصمنا بهما حصلت الوحدة وجمع الكلمة، وزال الشتات والفرقة، وبدون التمسك بحبل الله لا يمكن أن تتحد صفوفنا ويلم شملنا أو يقوى عودنا، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}. المؤتمر السنوي ويقول د. فهد بن سعد المقرن الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين: من نعم الله العظمى على المسلمين أن جعل لهم موسماً يجتمعون فيه من أصقاع الأرض ليؤدوا شعيرة عظيمة ركناً من أركان الدين، هذا الاجتماع المقدس يستوي فيه البشر فتتلاشى الفروق والأعراق والعادات، شعارهم البياض وأصواتهم تلهج بالتلبية، يمارسون عبادة واحدة، فأي مظهر يكون فيه التوحيد أعظم من هذا الموسم العظيمة، الحج مؤتمر الأمة السنوي الذي يميزه هذه الأمة الإسلامية عن غيرها، وإذا أرادت الأمة أن ترفع مكانتها وتعلي شأنها فموسم الحج هو مؤتمرها الذي ينبغي أن تنطلق منه لتمارس دورها الريادي في قيادة البشرية، إنّ مظاهر الوحدة في موسم الحج متعددة وكثيرة، منها: - وحدة الزمان والمكان، فالحج له زمان ومكان محدد يؤدى فيه لا يجوز أن يكون في غيره، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، وقال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) رواه الترمذي. - وحدة المناسك، فالجميع مطالب بأداء مناسك الحج، من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار. وكلهم يقومون بنفس الأعمال مما يجسد ويعمق هذه الأخوة والمحبة. - وحدة الهدف والغاية فالجميع قد جاؤوا من كل فج عميق، يحدوهم الأمل، ويحفهم الخوف والرجاء، رافعين أكف الضراعة إلى الله -عز وجل-، راغبين في مغفرته، طامعين في فضله ورضوانه. وحدة المعبود، فكل الحجاج يلبون بشعار التوحيد (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) يبطلون عبادة غير الله، ويعلنون التعبد لله وحده، فالواجبُ على أفراد الأمة جمعاء أن يستحضِروا ما دلّت عليه كلمات التلبية من معنى، وأن يعرفوا ما تضمّنته من دلالة، وأن يكونَ المسلم على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظاً عليه في كلّ حين وآن، لا يسأل إلا اللهَ، لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يطلبُ المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقناً أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأزمَّة الأمور بيده، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فالأمة المسلمة والمسلمون في الحج لا بد أن يدركوا أسرار الحج وغاياته، وأن يجعلوا هذا الموسم منطلق الأمة لمراجعة دورها الريادي في قيادة البشرية في كافة مناحي الحياة، على الأمة أن تبصر المسلمين الذين يقصدون البيت العتيق بدينهم الإسلام الخالص من شوائب البدع والضلالات، على الأمة المسلمة أن تنبذ خلافاتها المتعددة وتتوحد لأنه ما يجعل المسلمين هو أكثر بكثير مما يفرقهم بحمد الله.