وكما نجد في أدب الفصحى من الأدب ما أجري على لسان الحيوان أو الجن نجد الأدب الشعبي يخوض في هذا السجال في شكل سخرية أو هزل لا يخلو من النقد الموشى بالرمزية. وكما نعرف، فإن الصراع بين الكائن الحي حيواناً كان أو نباتاً دائب الحضور من أجل السيادة أو البقاء، ونحن نرى ذلك جلياً بين بني الإنسان ونلمسه بين الكائنات الأخرى فوق الأرض وتحت الأرض، وإن كنا لا نفهم لغة هذه الكائنات فإننا ندرك ذلك الصراع وتفوق الأقوى ما كان حصيفاً والفوز بحظ لم ينله المستضعفون من الأقوياء ما كان المستهدف ذا حيلة وتفكير، ولقد أطلقنا على الحيوانات ألقاباً تنسجم مع تصرفاتها ثم خلعناها على بعض البشر إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وربما تخيلنا مجتمعات غيرنا من الكائنات الحية أكثر تسامحاً وتنظيماً فصورناها في أدبياتنا وفق ما نجده صالحاً لحياتنا كما فعل أحمد السباعي حين قارن بين مجتمع الإنس ومجتمع الجن، الذي وصفه بأنه أكثر تنظيماً واستجابة لما يكون عليه المجتمع الصالح بل والمواطن الصالح. وبين أيدينا اليوم نص من الشعر الشعبي للشاعر عبدالمحسن بن ناصر الصالح رحمه الله «ينقلنا إلى منظر هزلي لمجموعة من الحيوانات التي افترض أنها تتكلم، اجتمعت في حفل لها.. الخ: كما يذكر الأستاذ عبدالرحمن بن زيد السويداء في كتابه «مميزات الشاعر»، والذي خلع فيه على الشاعر صفات تميزه عمن سواه من الناس، ويقع الكتاب في 552 صفحة من القطع المتوسط، واستشهد على قوله بأبيات من الشعر الشعبي وشعر الفصحى. وإن يرى السويداء ذلك في الشاعر فإن المبدعين جميعاً يجسدون في إبداعاتهم ما تصل إليه أفكارهم وخيالهم مما لا يتسنى للشخص العادي بلوغه. أما النص الهزلي الذي اختاره السويداء ففيه دلالة على معرفة الشاعر بطبائع الحيوان، فالسبع وهو الأسد سيد الغابة يحتفي بضيوفه مرحبا بهم إذ يمرون أمامه خاضعين معلنين له الولاء، ويقتسم الآخرون موازين القوى وفق ما أوتي من قوة أو حيلة. مهرجان حيواني منظم وبه اختراقات وتداخل لغات كما يحدث بين الوفود متعددة اللغات: يوم احتشدْ جمع الوفود الغفيرِ وتصاطرت عجم اللغى بالاشاوير والسبع الا نمر قدّموا له سريرِ ودلاّ يهلّي عند وجه المسايير ودلاّ بمعنى ظلَّ. وهذا الترحيب الغامر بمن هم دون مقامه، فهل كان صادقا أم كان يبيت أمراً؟ وهل كانوا واثقين من طيب نواياه أم أنهم يتبادلون الغمز واللمز ويشعرون بالخوف؟ مشاعر مضطربة يضيع فيها الطيبون: فز الفهد والتَيْس فزة ذخيرِ والذيب والقرد المسمى دعيثير واسعفهم الحصني كما انه بصيرِ صاحب لسان وللضياغم سكرتير هذه حالتهم ما أن رأى الفهد التيس حتى تحركت الغريزة رغبة في الهجوم وشعور بالمهابة التي يجدها التيس بين الماغر ولكنه أمام النمر في رعب وخوف يدعو للهروب، ولكن الثعلب ذا المكر والبصيرة وحذق المنطق مما أهله لسكرتارية الوحوش المفترسة لما يملك من دهاء وحيلة، ومثله ينفع في وضع الحلول وتجاوز المشكلات مؤقتاً، وربما دعاهم للاستعراض أمام الاسد وعرض مفاخر الأسد وأقرانه واستسلام الضعفاء من الحيوانات الأخرى: واستنت العرضة وقَبُّوا نفيرِ وادنَوْا لهم طبلاً يقادي جبل كير وشَوْبَشْ لهم ذربٍ يسمى بشيرِ ديك يفجر صم الاذان تفجير لو ان سعد قال شبره قصيرِ كان ارخصوا فيه الحرار الصقاقير وطاح الجمل زار بوسط الحميرِ قال اشعلوا لي فن زار على الزير شيلوا جواباً قايله من ضميري سنة الدهر واكل السلاطين جرجير وجدي على الجصّة وعدل الشعير وسنافيٍ يروين من جمة البير مع عشقة لي من بكار الظفيرِ عند السويط أهل البكار المغاتير وبدأت العرضة وصاح الديك مشجعاً، ويمتدح الشاعر الديك لولا أنه يقصر عن انجاز الصقور الحرة، منظراً وصوتاً دون فعل يذكر، وهذا الشاعر لم ير ديكاً يتيماً عطفنا عليه إذ كان لقيطاً وآويناه وعندما اشتد منقاره أرعب المتجولين في حديقة منزلنا وهابته القطط المفترسة وكان يغير على كل من يطرق مملكته، تلك الساحة الواسعة من حديقة المنزل. نعود إلى الجمل الذي أتى به حظه ليقع بين الحيوانات العشبية من الحمير وغيرها ويصاب بالزار الذي يهد كل مغوار ولا يوقظه من ذلك غير التطبيل حتى يفيق، وكان يتذكر جصّ التمر وعدل الشعر والماء الذي يقدم له من راعيه، ولا ينسى عشيقاته من البكار الجميلة. بعد ذلك تمت العرضة على الوجه المطلوب: شالوا وغنوا له بصوت جهيرِ نهيق أصلف من صياح البوابير وجاهم ستادٍ بالغواني شطيرِ ورق الحمام اللي لحونه مزامير شال اللحون وشال معه القميري وطربت على فنّه جميع الجماهير وقامت طواويسه تجر الجريرِ والخيل ترقص بالحذا والمسامير وبعد هذه «الوناسة» العاجة بكل الأصوات المتنافرة جاءت فرق الغناء الخبيرة بكل فن وهي الحمام والقمري، وأطربت الحضور حتى اندفعت الطواويس للرقص والخيلاء، وحتى الخيل أخذت ترقص وتصهل: وقرودها ترقص وصيده يغيرِ ومعيزها ترقص وضانه محايير وسباعها تَقْنُبْ وشره شرير لو لا شيوخه والحرس والنواطير هذا الاحتفال والابتهاج في مجتمع الحيوان، ذلك المجتمع المنضبط مع الطبيعة والغريزة. لكن الشاعر يختتم وصفه بأن الطرب والاندهاش أدى إلى الفوضي: تخلبصت وانحاس منها المرير ما احدٍ يميّز مورده والمصادير لن نذهب لتأويل النص، وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الأدب الشعبي يطرق ما يطرق الأدب العربي من فنون مستخدماً كل الأساليب التي ينحوها أدب الفصحى من سخرية ورمزية وألوان شعرية. وهذه الأبيات جديرة بالتحليل إذ أنها تجمع أنواعاً ذات طبائع مختلفة، ومعائش متنوعة، وتحمل رموزاً ذات معان صالحة للتوظيف الفكري، وأعد الشاعر من المبدعين ذوي الرؤى العميقة. وأورد هذا النص أيضاً بأن لكل الكائنات ما تبتهج به وفق طبيعتها، ولعل فيها شيئاً من الامتاع حين تخيل الموقف الابتهاجي في عالم الحيوان.