يسعى الإنسان إلى تشكيل ذرية صالحة، تتمتع بمكارم الأخلاق ونبل الخصال، وذات دور فاعل في المجتمع. ومن هنا جاء سعيهم إلى حسن اختيار المنبت الطيب لهذه الذرية بدءاً من الزوجة إلى التربية واختيار الرفقة الصالحة التي تعزز دور الأسرة وتطلعاتها، وتنمية المهارات وغرس القيم الفاضلة في الناشئة وتأجيج مشاعر الطموح لديهم، وتحمل الصعاب في سبيل تحقيق الأهداف. وفي المجتمع الإسلامي بل وكل المجتمعات ذات المرجعية الدينية تنبع توجهاتهم التربوية من المصادر الدينية فالقيم الاجتماعية، والإسلام منهل عذب تستقى منه كل الفضائل التي تسعد الإنسان في دنياه وآخرته، وذلك لشمولية توجيهاته لغرس القيم النبيلة، ومراقبة الحقوق بما في ذلك حق الإنسان نفسه وحق من حوله من الكائنات الحية والأرض التي منها خلق وإليها يعود. والآباء أحرص الناس على حسن تربية أبنائهم وتهيئتهم لمستقبل يرجونه، ولكن البدويات أكثر حرصاً منهم، إكراماً للآباء وتطلعاً إلى أبناء صالحين يستجيبون لمطالب الحياة البدوية. والأدب الشعبي وبخاصة الشعر فهو الأدق تعبيراً عن المشاعر والأحفظ لنثارها، نعم الأدب الشعبي زودنا برؤية جلية عن شغف الآباء بتزويد أبنائهم بالنصائح التي يعتقدون أنها تصلح حالهم، ولقد كانت قصيدة بركات الشريف من أجمل القصائد في هذا المجال، وقد جاراها كثير من الشعراء، تلمس في شعرهم تبدل القيم وتجددها. وبين يدي مقطوعات أو مجتزءات من مطولات لشعراء الجبل الذين روى عنهم هذه النصوص الأديب الباحث عبدالرحمن السويداء في كتابه «شعراء الجبل الشعبيون» ومنهم الشاعر هاشم الغريس يخاطب ابنه فرج: لا وا على يا فْرَيْج من شاف خَيْرك من قبل ما يُركز علي النصايب أرجيك، ولا أرجي من الناس غيرك إنته صغير وصرت انا اليوم شايب ويتساءل: وش هَقْوتك طيري يوافق لطيرك؟ ولا ظنتي طيري لطيرك صحايب كم فرّقت بين المحبين غيرك أَهْله شتات وكل فعله عجايب أوصيك لا يقصر عن الناس مَيْرك تَرْ حشمة الجيران بالنَّصْ واجب يظل قلق الآباء وإشفاقهم على أبنائهم وانتقادهم حتى وإن اقترب الأبناء من سن آبائهم وتزودوا بالعلم والخبرة التي عليها آباؤهم، ولكن يظل الابن في عين أبيه صغيراً وجديراً بنصح أبيه. والشاعر هنا يتمنى أن يمهله العمر حتى يرى نتاج ابنه واعتماده على نفسه، وعليه يعلق الأب أمله في أن يرفده، وأن يغنيه بحنانه وبره عن الحاجة لغيره، وعندها تتحقق راحته واطمئنانه على ابنه. ثم يتوقع الأب أن تكون حياة ابنه المستقبلة مختلفة عن حياة الأب لأنه وجد لزمن غير زمن أبيه، ولكن النصح واجب تربوي ومنه يستمد الابناء إضاءة تنير طرقهم المستقبلة مهما اختلفت أنماط الحياة وأساليبهم. وأعتقد أن الشاعر لم يقصر وصيته على الجار وربما لم يدرك المؤلف النص كاملاً أو إنه وجد فيه تكراراً فاكتفى بالاشارة إليه ليظل بحثنا عن النص كاملاً ضالة ينشدها كل باحث. والآباء في الماضي لا يستبينون بارقة الأمل في أبنائهم لأن حياتهم كانت تعتمد على المطر والكسب غير المضمون، وأن هذا الكسب مهدد بانحباس المطر وآفات النبات والحيوان وغزو الأعداء. أما اليوم فإن الجنسين مهيآن للانتاج بعد انتشار التعليم والتأهيل والتدريب وكسب الخبرات وتعدد مجالات الكسب الشريف فيطمئن الناس إلى مستقبل أبنائهم وفق ما حققوا من تعليم وتربية. وكلمة خير في الأبيات كلمة جامعة للافعال والأقوال والانتاج. أما الشاعر الآخر فهو معلث الرشيدي الذي يخاطب ابنه منيف قائلاً: يا منيف شفت الشيب من كُبْر سني وحطَّيت غضَّات الصبايا على يْسار وطرد الخشوف التايهة وافْخَتَنيِّ والطير خلّيته وانا كنت صقّار كفى بالشيب للمرء واعظاً، هكذا يقول الشاعر عن أيام شبابه، ثم يتحدث عن كفاحه من أجل إسعاد اسرته: يا منيف يوم ان السنين ادبرنِّي صبرت يوم انتم مساكين وصغار واليوم يوم ان السنين اقْبَلَنِّي أنتم على الغاية رجاجيل وكبار أبوك عَوْدٍ بالمكان مْتِثنِّي يا منيف ما لي بالمهمات مقدار اقْضَب مكاني، فيك لا خاب ظني وخلّك على كل المواجيب صبار يسلم الشاعر الراية والولاية لابنه منيف محسنا الظن به، ومعلنا عجزه عن القيام بهذه المهمة، ولا شك أن لمنيف إخوة من الجنسين أصبحوا كباراً يؤدون دورهم في الحياة لا سيما وأنهم كما يمتدحهم غاية في الكفاءة والرجولة والمقدرة على إدارة شؤون أسرتهم. أما الشاعر خلف بن زويد الشمري (1260 – 1361ه) فإنه يوصي ابنه دخيل قائلاً: دخيل خذ من والدك لك مِسَالة مسَالِةٍ ما يَفْهمه كل رجَّال احْشم خويَّك عن دروب الرزالة ترى الخُوِي عند الاجاويد له حال والمرْجْلة بالك ترخِّي حباله حذرا تعيل ولا تَرَاخَى لمن عال البِلْ يِفْتَلْ من وُبَرْها عقاله والخيل تِزْلَجْ بالشبيلي والاقفال إن كان ما تِدْعَى على كل قالة تراك من حسبة هدوم له ازوال وان كان دلوك ما تموحه شماله ترى النشامى ينسفونه على الجال رفيقك الداني إذا شفت حاله احمل عليك من المعاليق ما شال يا عَلْ رجلٍ شوفته قد حاله عسى تدوِّر زوجته فيه الابدال الحُمّرة تدرك معيشة عياله لا عاد ما يُبغى منه باقي الاحوال وان صار لك من عوص الانضا زمالة حمرا تورِّد بك ليا صنقر اللال تِمْرِسْ كما تمرس خَطاةَ المحالة مع سِهْلةٍ عمَّال من جا معه ذال خلّه مع الديَّان تمشي لحاله يا صار ما انت للمْسَة الخشم حمال تَرْ ربع يومٍ مجلسك بالشكالة يسوى جلالك عايشينٍ به انذال القصيدة بليغة وصعب فهم معانيها، وقد أبدع المؤلف في شرحها فإلى الحكم التي أودعها نصيحة ابنه والوصف الرائع للذلول والأجناس التي ضرب بها الامثال نجد أمامنا قصيدة جديرة بالدراسة والتأمل فهي خلاصة فكر وتجربة، وحسبنا ما ذكر المؤلف من شرح للبيت الثاني عشر: «والمعنى أنك إذا كنت لا تستطيع احتمال المكاره والمصاعب ولا تقوى على الانحناء وطأطأة الرأس أمام أمر من الأمور فما عليك إلا أن تعيش وحدك لتتمتع بكامل حريتك دون أن يضايقك أحد أو تنوء بأية أعباء» وشرحه لمعنى البيت الأخير: «يدعو فيه إلى عزة النفس والترفع عن سفاسف الأمور حتى مع الحاجة والفوز، والابتعاد عن الذل والهوان... فإن ساعات من نهار تعيشها مرفوع الراس تساوي اموالاً طائلة، قد عاش في ظلها انذال الناس وبخلاؤهم». وتمثيل الشاعر بالحمرة ذلك الطائر الوديع الذي لم يعجزه جلب طعامه وطعام أفراخه فذلك هدفه، ولكن الإنسان مطالب بأن يكون أداة فاعلة في مجتمعه يشارك في الافراح والاتراح ويساهم في تنميته. وللشاعر وصية أخرى لابنه دخيل: دخيل كان انك لهرجي تشيلِ هرج يدل اللي يتيه القوايل وداعتك يا ويَلْدي يا دخيلِ وداعة اللي ما يبوق الرسايل وهي – كما يبدو – استدراك لما فاته ذكره في الوصية الأولى، ولا تقل أهمية عنها. إن من يفهم الشعر الشعبي الذي يعبر بلغة البادية ولهجاتهم ومناهجهم وبيانهم في الشعر يستطيع تذوق هذا الابداع وبلوغ معانيه، ومن ثم التسليم بفصاحته وفنيته، ويدرك أنه ابداع من نوع ما، جدير بالدراسة وفض اسراره، وكشف جماليته. وفيه الجيد والضعيف كما هي الحال في الشعر الفصيح. ورغم أنني لا استحسن الابداع الشعري بغير الفصحى، إلا أننا لو افتقدنا هذا الشعر فسنفتقد كثيرا من تقاليد المجتمع وجماليات تعبيره، وستضعف علاقتنا ببيئة تمثل أكبر نسبة من بلادنا.