دعونا نبدأ بمقدمة أو نبذة عن البرقية وهي الثورة الجديدة التي بدأ استخدامها مع بدايات القرن الميلادي الماضي لإرسال نصوص تعتمد على ترميز الحروف بنبضات كهربائية أو كهرومغناطيسية تستلم بواسطة مستقبلة لا سلكية على شكل شفرات تحول بعد ذلك إلى نصوص مقروءة قبل ان تتطور إلى برق لاسلكي. وشكل استخدامها منعطف تاريخي في مجال الاتصال السريع وتقارب المسافات وهي أول تقنية اتصال وظفها الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه لخدمة امن البلد ورصد تحركات الأعداء إضافة إلى تناقل الأخبار المهمة في مرحلة مبكرة عند ما وقع مع إحدى الشركات الأجنبية مشروع إنشاء محطتين كبيرتين للبرق اللاسلكي في مكةوالرياض إضافة إلى أربع محطات متحركة انطلقت منتصف سنة 1932م لتستقبل في عدد من المدن والأقاليم والنقاط الأمنية المهمة على خارطة البلاد وقبل هذا كان الملك عبدالعزيز قد بدأ تجاوز صعوبات الفهم الحقيقي لماهية هذه الأجهزة وآلية عملها من العامة مثل الكثير من الصناعات والتقنيات التي لم تستوعبها فطرة أو عقلية ابن الصحراء البسيط الذي نأت به عزلة صحرائه عن كل ما هو جديد حتى وقف منها موقف الرافض المجابه أحيانا خصوصا بعض المتحمسين الذين قرنوا آلية عملها بالجن والشياطين وروجوا لعامة الناس أن هذه الأجهزة لا تعمل الا بعد ما تذبح لها القرابين التي تنحر نحو الشرق دون أن يذكر عليها اسم الله ومثلهم بعض طلبة العلم المجتهدين الذين ان لم يرفضوها على هذه الصورة رفضوها كبدعة من صنع الكفار، وسنورد في حلقة قادمة تفاصيل ما ذكره المؤرخ حافظ وهبة عن ذهاب بعض هؤلاء إلى ما هو ابعد من ذلك وهم يفتشون عن بقايا عظام هذه القرابين قرب محطاتها وسؤال العاملين بها عن مكان وجود الشيطان الأب وهل هو موجود في مكة أم يقيم في الرياض بعد ما ذكر في كتابه (جزيرة العرب في القرن العشرين) أن الملك ظل يجاهد ويجالد لأكثر من عشر سنوات مرة مع المتشددين ومرات أخرى مع حركة الإخوان في سبيل إقناعهم بأنها مجرد صناعة عقول لا علاقة لها بالجن أو البدع المحرمة مثلها مثل البندقية والمنظار والصناعات التي يتقوى بها المسلمون وتخدم قضاياهم ثم ذكر (وهبة) جانبا من الضغوط التي كانت تمارس على الملك لمحاولة ثنيه عن اتخاذ مثل هذه الخطوة والموقف الواضح والصارم للملك ومنها ما ذكره نصا في قوله : بعض رجال الدين حضروا عند الملك عبدالعزيز سنة 1931م لمّا علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكية في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد. فقالوا له : يا طويل العمر لقد غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله إلى بلادنا وإن (فلبي) سيجر علينا المصائب ونخشى أن يسلم بلادنا للإنجليز فقال لهم الملك: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ولست ولله الحمد بضعيف العقل، أو قصير النظر لأخدع بخداع المخادعين، وما «فلبي» إلا تاجر وكان وسيطا في هذه الصفقة، وإن بلادنا عزيزة علينا لا نسلمها لأحد إلا بالثمن الذي تسلمناها به - إخواني المشايخ أنتم الآن فوق رأسي. تماسكوا بعضكم ببعض لا تدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرة ثانية .. مسألتان لا أسمع فيهما كلام أحد، لظهور فائدتهما لي ولبلادي ( المقصود اللاسلكي والسيارة ) ، وليس هنالك دليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع من إحداث اللاسلكي والسيارات ( انتهى ). ومع أن العام 1932 م عده المؤرخون اول تدشين رسمي للبرق اللاسلكي الا ان الرحالة الدانمركي باركلي رونكيير ذكر أثناء عبوره الرياض سنة 1912م أن الملك عبد العزيز ادرك جيدا أهمية هذا الجهاز فاستعان به في وقت مبكر في فتوحاته قائلا : «طبقا لمعلومات حصلت عليها من أصدقاء الإمام فهو حاكم محارب وشجاع وقد قيل إنه أغضب المتزمتين من أتباعه باستخدام الغرامافون في معسكره». المستشرق الانجليزي المعروف عبدالله فيلبي صاحب أو وسيط الشركة صاحبة الامتياز التي أوكل لها تنفيذ المشروع نقل صورة أخرى مختلفة قليلا للمشهد وهو يشير إلى قبول أو تفهم نسبي من بعض المعارضين وقال في كتابه العربية السعودية : لم تكن المحنة التي واجهها ابن سعود في الرياض محنة قاسية ، حتى لو أنه سمع بالفعل نقدا صريحا بسبب الابتكارات التي جلبها من الحجاز. حيث إن مهارته في التعامل مع أهالي نجد وكذلك بلاغته في التعبير لم تترك مجالا للشك بأن محدثيه ومحاوريه المتلهفين والتواقين سيقرون سياسته في النهاية ويصادقون عليها. جدير بالذكر هنا أنه إذا استدعى حدث ما .. الخطابة ، فكان ابن سعود يرتقي إلى أعلى مستويات الخطابة . ولم يشر فيلبي إلى جملة التكاليف وقيمة عقد التنفيذ في حينه الا انه وبعد خمسة وعشرين عاما ذكر في كتابه أربعون عاما في البرية والذي طبع في انجلترا سنة 1957م ما نصه : عندما تجسدت فكرة إقامة شبكة اتصالات لاسلكية قبل حوالي (25) عاما وغالبا ما كنا نسمع تلك القصة من الملك نفسه اذ اطلعنا كيف أن شركة معينة كان كفيلها من المتنفذين تقدمت بعرض قيمته ( 65 ) ألف جنيه استرليني وذلك لتقديم المعدات والقطع اللازمة للمشروع وقال ابن سعود أيضا ان جون ( عبدالله ) فيلبي تقدم بعرض نيابة عن شركة ماركوني لتنفيذ هذا المشروع بمبلغ (36) ألف جنيه إسترليني وبذلك وفر علينا الكثير من المال . ( يتبع ) .. تدشين أول جهاز للبرقية بالعالم وهبة