قد يبدو للكثير أن الأفلام الوثائقية هي أعمال مملة وأنها لنوعية خاصة من المشاهدين بحكم كمية المعلومات والوثائق التي تتحدث عنها، لكن المتابع للأفلام الوثائقية يجد أن هناك الكثير من القصص الممتعة والجميلة التي برع صناع الأفلام في تناولها والحديث عنها بشكل مختلف ومتميز تجعل الأفلام الوثائقية أكثر متعة أحياناً في سرد القصص من الأفلام الروائية. كما ان كانت المدرسة الأمريكية في الأفلام الوثائقية تنحو أكثر نحو الشخصي والخاص. ومن أبرز الأمثلة الحديثة عن الأفلام الوثائقية التي تحكي قصة ممتعة للغاية فيلم Searching For Surgar Man (2012) الذي حاز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي. وربما كانت هذه المساحات المفتوحة هي ما حدا بالممثلة والمخرجة سارا بولي أن تحكي قصة مثيرة كتلك التي تناولتها في فيلمها الأخير "حكايات نرويها" "Stories We Tell" كفيلم وثائقي رغم أنها قد أخرجت من قبل أفلاماً روائية. فالمساحات التي يعطيها الفيلم الوثائقي في طرح الأسئلة وتأمل الواقع كبيرة وعالية وهو ما يجعله رغم معرفة منتجه وصانعه بأنه قد لا يحوز على عدد كبير من المشاهدين يختار أن يجازف بوقته وجهده وماله. والجدير ذكره هنا أن قلة من الأفلام الوثائقية كأفلام مايكل مور هي التي استطاعت أن تتجاوز دور العرض الخاصة إلى الجماهيرية وهناك ندرة منها استطاعت أن تحقق إيرادات عاليه كفيلم March Of The Penguins 2005. ولكن للأسف هذه استثناءات تؤكد القاعدة وهي أن حظوط الوثائقي حتى الآن أقل بكثير من حظوظ الروائي في الإقبال الجماهيري وفي الجوائز أيضاً. يبدأ فيلم "حكايات نرويها" بسارا بولي وهي تضع أفراد عائلتها "مارك، جوان، سوزي، جون" أمام الكاميرا كما نرى أباها مايكل بولي وهو يجلس أمام الميكرفون ليسرد جزءاً من القصة نسمعها بصوته ونراها وهي تصوره وتسجل صوته بالأستوديو. يبدو أفراد عائلتها وهم يجلسون أمام الكاميرات وهي تطلب منهم أن يرووا قصة عائلتهم وخاصة قصة أمهم ديان بولي والتي فيما بعد نعرف أنها توفيت عام 1990 بعد إصابتها بالسرطان وأن سارا كان عمرها حينذاك 11 سنة. هناك أطراف وشخصيات أخرى تقابلهم سارا ونتعرف بالتدريج على علاقتهم بديان والحكايات التي يروونها عنها لنكتشف أن هناك عدة حكايات، فكل يروي الأمور من وجهة نظرة. ففيما كانت إحدى صديقات الأم تصف ديان بأنها إنسانة لا تعرف أن تخفي شيئاً، كانت صديقتها الأخرى تقول بأن هناك أسرارا تعرف جيداً كيف تخفيها. تتكشف القصص بشكل ذكي أثناء السرد لتطرح مفاجآت حول ديان وأخرى تبقى مطروحة ضمن تفسيرات مختلفة. فالمخرجة تود أن ترينا أن هناك وجوها كثيرة للحقيقة. ويتضح لنا شغف المخرجة بالحكاية أنها لم تعبأ بأن القصة هي قصة خاصة تحكي فيها عن عائلتها فقد غلب لديها الحس الفني على الحس الشخصي. ورغم أنها في صلب الحكاية لكننا نراها وهي تبحث وتسأل وهي بعيدة إلى حد كبير وتدير الخيوط السردية الكثيرة في الفيلم باقتدار كبير. لذلك فالفيلم شكلاً وموضوعاً مختلف. وقد قامت المخرجة بتصوير مشاهد تمثيلية للممثلة ربيكا جينكيز وهي تؤدي دور ديان مع ممثلين أدوا دور الشخصيات المرتبطة بها بالقصة بكاميرا سينمائية 8 ملم وجعلتها تبدو وكأنها بالفعل لقطات أرشيفية مصورة بكاميرا فيديو كي تدخلنا أكثر في تفاصيل الحكايات. بالإضافة إلى كثيرة أرشيفية لديان الحقيقية والتي تبقى لغزاً في نهاية الأمر: من أحبت؟. ولم كانت خياراتها في الحياة بهذا الشكل الذي انتهت عليه؟. وكيف أثرت في نفوس وحياة من هم حولها؟. صناعة الفيلم لم تكن شكلاً موجودة فقط لتذكرنا بأن ما نراه هو صناعة فيلم وثائقي بل كانت أيضاً جزءا من الحكاية. لكن أهم أسباب تميز الفيلم هو أن خصوصية موضوعه تبدو وكأن أحدهم يفتح باب بيته ويخبرنا بأدق تفاصيله وكأننا أصدقاء نستمع إلى شيء خاص لم يكن من المفروض أن نعرف عنه. ولذلك فإن هذا القدر من الانفتاح والتماهي في إشراك المشاهد في الموضوع وفي الصناعة، تعطي شعوراً بالحميمية والقرب من شخصيات الفيلم وهو الشعور الخاص الذي يخرج به من يشاهد هذا الفيلم. المخرجة بولي التي تميزت وعرفت كممثلة أولاً، برزت كمخرجة وكاتبة في فيلمها الروائي الأول "Away From Her" (2007) والذي تم اقتباسه عن قصة قصيرة استطاعت سارا أن تصنع منها فيلماً روائياً جميلا وقدمت تقاطعات زمنية في سرد الحكاية لتجعلها أكثر تشويقاً وإمتاعاً واستحقت بولي الترشح للأوسكار عن جائزة أفضل نص مقتبس كما حصلت الممثلة جولي كريستي على الترشح عن جائزة الأوسكار لأفضل آداء عن دورها في الفيلم. ثم قدمت بولي فيلماً بعد ذلك هو "Take this Waltz" عام 2011 لكنه لم يحقق نجاحاً يذكر. لكن فيلمها الوثائقي الجديد يظهر سارا بولي كمخرجة وكاتبة ذات بصمة خاصة، كما يمتلك حظوظاً قوية في المنافسة على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وئائقي وهو أيضاً فيلم يُبقي شخصياته في ذهن من يراه حتى بعد فترة طويلة من مشاهدته.