ليست المرة الأولى التي تتصدى فيها هوليوود لإعادة تقديم فيلم ذي جنسية أجنبية أصاب من النجاح والشهرة الشيء الكثير، وذلك عبر إعادة تبيئة القصة وظروفها لتناسب المجتمع الأمريكي. لكن الجديد في هذه التجربة هو إعادة تقديم السلسلة الأشهر أوروبيا وعالميا «ثلاثية الألفية»، التي تعد بحق درة السينما الأوروبية الروائية، وذلك من دون تدخل في النص الأصلي أو مكان الأحداث والأجواء الأوربية. ليبصر الجزء الأول النور «الفتاة ذات وشم التنين» مبحرا بمقولاته عن المجتمع السويدي تاريخيا، وعابقا بأجواء التشويق والإثارة التي تفوقت على روائع الأمريكيان «ستيفن كينج» و«دان براون» وليحقق نحو 80 مليون دولار في شباك التذاكر الأسبوع الماضي. نبش الماضي القاتم يأخذنا الفيلم عبر متواليات سردية بحيث تفتح الحكاية على أخرى، وتبدأ القصة بالحكم بالسجن لثلاثة أشهر على الصحفي «ميكائيل كلومكفيست» الذي فضح في مقال له فساد الملياردير السويدي «هانز إيريك وينستروم»، وعلى إثرها يستقيل «ميكائيل» بعد الخضوع لقرار المحكمة، عقب رفض طلب الاستئناف في هذه القضية ويقرر الابتعاد عن الكتابة. لكنه يفاجأ باتصال غريب من شخص ألحّ عليه أن يأتي إلى منطقة تدعى «هيدبي»، وما أن وصل «ميكائيل» حتى وجد شخصا كبيرا في السن من عائلة «فانجر» يطلبه للتحقيق في قضية اختفاء ابنة أخيه «هاريت فانجر» في عمر ال18 ضمن ظروف غامضة والمشاع أنها قتلت، وهذه القضية قد مر عليها فترة كبيرة من الزمن «نحو 40 عاما» في مقابل مبلغ كبير من المال، إضافة إلى أدلة أخرى وفضائح مالية ضد خصمه «وينستروم». وبذلك يوافق «ميكائيل» على البحث في تاريخ العائلة مدة سنة، وأثناء البحث في القضية عبر الإنترنت يفاجأ «ميكائيل» بشخص «هاكرز» يتجسس عليه من خلال الإنترنت، ويكتشف أنها فتاة في العشرينات من عمرها تدعى «ليزبيث سالاندر»، تعمل مع الحكومة، وهي شخصية قاتمة مخيفة الشكل باللباس والحلي والوشوم «وشم التنين الذي على كتفها»، لكن ذلك يخفي كتلة من المشاعر المرهفة والحساسة، وهذه الفتاة تتجسس عليه بعد أن طلب منها عميد عائلة «فانجر» البحث في سيرة هذا الكاتب الصحفي، وبعد أن اكتشف «ميكائيل» مهارة «ليزبيث سالاندر» في البحث والتحقيق، يقرر أن يستدعيها للتعاون معها والتحقيق في نفس القضية. وأثناء التحقيق تظهر أحداث وملابسات من دفتر «هاربيت» الشخصي كتعلق الأرقام بمقاطع من الإنجيل، وتزداد القصة تعقيدا لتتحول للبحث في علاقة الجيل القديم لعائلة «فانجر» أي بين خمسة أفراد كبار في السن من نفس العائلة، وهم ممن كانوا ينتمون للنازية في حقبة الأربعينيات وهذه القضية هي قيد التحقيق، ومع تغير عمادة العائلة بعد نوبة قلبية وطلب العميد الجديد «مارتن» من «ميكائيل» أن يتوقف عن بحثه في تاريخ الأسرة. تفتح القصة ليظهر فيها قاتل متسلسل يتم البحث عنه، ثم تدخل القصة في استعراض للتاريخ المظلم والفاسد أخلاقيا لتلك العائلة، خصوصا بعد اكتشاف أن «هاريت» على قيد الحياة، ولكن تقادم القضايا يمنع من إعادة فتحها. وينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة بعد انتقام «ميكائيل» من خصمه بمساعدة «ليزبيث». فيلم الأوسكار المقبل قصة الفيلم مأخوذة عن الرواية الأولى التي تحمل نفس اسم الفيلم من ثلاثية للمؤلف السويدي «ستيج لارسن» التي عرفت باسم «ثلاثية الألفية»، وتتمحور الأحداث جميعها حول شخصية «اليزبيث سالاندر» بطلة الروايات الثلاث وهي قرصانة حاسب آلي مثيرة وغامضة وعاشقة للدخول في متاهات الحياة وجرائمها وكشف ألغازها وفسادها، وتضم روايات «الفتاة ذات وشم التنين» و«الفتاة التي ركلت عش الدبابير» و«الفتاة التي لعبت بالنار»، حيث صدرت جميعها بعد وفاة «ستيج لارسن» عام 2004، وحققت نجاحا عظيما بداخل أوروبا وخارجها حيث بيع من الثلاثية ما يقرب من 28 مليون نسخة في نحو 40 دولة، قبل أن يزداد انتشارها عالميا بعد تحويلها عام 2009 لثلاثية سينمائية من إخراج المخرج السويدي «نيلز اردين اوبليف» نالت الكثير من التقدير؛ ما أدى إلى رغبة هوليوود في تقديمها فكان جزؤها الأول من نصيب السيناريست الكبير«ستيفين زاليان» الذي وضع سيناريو أفلام أوسكارية منها «لائحة شندلر- بنادق نيويورك» وأحدثها «كرة المال» بحيث تبع نمط السرد لدى «لارسن» الذي يتميز بدقة الحبكة البوليسية، وحس الإثارة العالي، والترابط المنطقي المحكم للأحداث، وتميز السيناريو بالحوارات الآسرة والجمل البسيطة والواضحة، لذا رشحت النسخة الأمريكية من «الفتاة ذات وشم التنين» لجائزة أوسكار أفضل سيناريو مقتبس من عمل آخر، وعلى الغالب أن تفوز بها. كما كسبت هذه النسخة الهوليودية من الفيلم توقيع المخرج المبدع «دايفيد فينشر» الذي تعودنا أن يدهشنا في كل مرة بجديد ومختلف عن أنماط واتجاهات أعماله السابقة «الغرب، نادي القتال، حالة بنجامين باتون الغريبة، الشبكة الاجتماعية» هو هنا يقدم فيلما يعتمد على فك الرموز والألغاز والتعامل مع شخصيات مركبة ومتداخلة تبطن عكس ما تظهر، لكل منها أفكارها وحساباتها وأيضا إشكالياتها، وقد عكست رؤيته الإخراجية ذلك بحرفية متناهية، حيث كل مشهد يورط المشاهد في حكاية ولغز جديد، ويزج به في دوامة التحليل والأسئلة، وباقتدار معهود بالإمساك بكل مفاصل العمل السينمائي من حركة الكاميرا وكادراتها وأجواء الفيلم القاتمة، إلى الموسيقى التصويرية التي غدت الحدث وأسهمت بحالة الإيهام للمشاهدين، والتي وضعها «ترينت ريزنور» و«أتيكوس روس» الحاصلين على جائزة الأوسكار عن موسيقى فيلم «الشبكة الاجتماعية»، كذلك بأداء الممثلين خصوصا النجم القدير «دانييل كريج» الذي قدم أداء عميقا لشخصية «ميكائيل»، والممثلة الشابة «روني مارا» التي فاجأت الجميع بأدائها الرائع لشخصية «ليزبيث» وحصلت على ترشيح لجائزة أفضل دور نسائي، كذلك العملاق السويدي «ستيلان سكارسجارد» .