لا أستطيع أن أمنع نفسي من فتح حديث متلطف حادب مع أي بائعة اتعامل وإياها في السوق، أدثرها بكلمات التشجيع وعبارات الفخر والأدعية، بينما وقتها يتبدى لي في خلفية المشهد لمحات من صعوبات الرحلة التي قطعتها وقطعها المجتمع معها لكي تصل إلى مكانها ذاك شامخة متعففة بجبين لا ينخفض. رغم كل ما يحدث حولها فإنها في النهاية تصل في الوقت المحدد وسط أمواج متلاطمة من النهر والجزر وحصار من الاسترابة والمعوقات المثبطة، وشوارع بلا مواصلات عامة، وعجز عن استعمال مركبتها الخاصة للتنقل.. لكنها تصل. وقفت البائعة باسقة ثابتة في موقع عملها ليس فقط تصنع حضورا جديدا لها في الفضاء العام، بل هي تعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية داخل الأسرة المحلية بصيغة متطورة، فهي لن تكون فما جائعا وعبأ ثقيلا على ظهر ميزانية أب أو زوج رقيقي الحال، أو أم مطلقة، ستأبى أن تكون امرأة مسيار أو زوجة رابعة ملبية للانفلات الغرائزي الذكوري، وهي في النهاية أيضا سترفض أن تمتهنها قوائم انتظار ديوان الخدمة المدنية. توسيع مجالات عمل المرأة هو من أكثر الخطوات الاصلاحية ايجابية كونه يوازن المعادلة المضطربة داخل أكبر اقتصاد في المنطقة يعاني قسم كبير من مواطناته.. من البطالة أعداد الفتيات اللواتي يصلن سوق العمل كل عام في نمو مطرد، وقضية إدراجهن وتدريبهن للانخراط في سوق العمل تشكل تحديا للجهات المسؤولة، وهو الأمر الذي دفع وزارة العمل للقيام بإجراءات سريعة جدا لايجاد فرص عمل تستوعبهن، بينما الجهات التنظيمية الأخرى تتقاعس عن دورها في دعم هذه التحركات السريعة. فعلى سبيل المثال حتى الآن لم يصدر ويقر قانون (حماية المرأة من العنف) والذي ستحتوي حتما بنوده تشريعات تحمي المرأة في مجال العمل من (التحرش) وهو القانون الذي أعتقد أنه أمر جوهري وأساسي لتأمين بيئة عمل آمنة ومنضبطة للمرأة. ولم نسمع حتى الآن بخطة توعوية طويلة المدى تقوم بتهيئة مناخ اجتماعي متقبل وايجابي لفكرة المرأة االعاملة، كل الذي نسمعه ويحتل المشهد هو آراء متطرفة حول الاختلاط وتحريم القيادة، ولكن بالمقابل ظلت قوانين حماية المرأة من العنف في ميدان العمل والأخذ على يد المسيء وردع المخطىء والمنحرف غير مفعلة. ومازال هناك من يملأ الدنيا صخبا وضوضاء ضد نزول المرأة ويخلق مزاجا شعبيا نافرا ضدها. ومازال البعض يستغلون منابرهم لاجهاض هذه التجربة وتثبيط أولئك المتعففات الساعيات إلى اللقمة الحلال، ومازالت وسائل الإعلام تدفع لنا عجائب الآراء الشاذة المتطرفة حول هذا الموضوع.. فمن قائل (ان التحرش هو من الأساليب الممكنة لردعهن وإعادتهن لمنازلهن) إلى آخر يقول من منظور مازوشي منحرف (لكل امرأة تلهث وراء سراب الحرية، أقول ورب السماء والأرض أن لسعة سوط يلهبك بها زوجك الغيور أبر بك من بسمات الذئاب الخلوب).. وعلى المستوى الميداني مابرحت البائعات تواجه حصارا وزجرا ونهرا ومضايقة (موثقة بالكاميرات) من قبل جهات من المفترض أن تدفع للستر والفضيلة لا أن تقف حاجزا دونها، وكأن بضعة سنتيمترات من الساتر الذي يرتفع في المحلات سيؤمن لهن الوقاية المطلوبة. هذا غيض من فيض العنف اللفظي الذي تتعرض له المرأة البائعة أو سواها ممن يعملن في مواجهة مباشرة مع الجمهور. المشهد مؤلم ويحتم على المسؤولين التسريع بتفعيل قوانين التحرش بجميع اشكاله ومن قبل أي جهة كانت. فطالما كان هناك أذى جسدي أو معنوي أو لفظي وقع على المرأة في مجال العمل فلا بد من الأخذ على يد المسيء وردعه.