الإبداع هبة إلهية حيث تعمل كطاقة متدفقة بداخل المبدع تقوده بل تدفعه للعمل الخلاق المستمر لإشباع هذا التوق المشتعل بداخله برغم العديد من الصعوبات والمعوقات التي تواجهه خلال مسيرة حياته.. يبقى المبدع كائنا غير قابل للدرس التحليلي وللمواصفات الجاهزة لغيره من البشر.. حيث تستطلع " ثقافة اليوم " أسباب غياب المبدع لفترة زمنية وعودته دونما معرفة كاشفة لذاك الغياب! تولستوي يقول الناقد الدكتور حسن رشيد في قراءته لعودة المبدع بعد الغياب: لا أدري لماذا تذكرت الشاعر الكويتي علي السبتي الذي غاب لسنوات ثم عاد دون أن نكتشف سببا لغيابه، أما في الوطن العربي هناك سبب أعتقد مرجعه غياب القارئ، فحينما نعود إلى الإحصائيات نكتشف أن المبدع العربي يطرح على ذاته العديد من الأسئلة منها لمن أكتب؟ وما المردود منها؟ فالمعروف أن الكاتب والروائي نجيب محفوظ كان يصدر من كل عمل ثلاثة آلاف نسخة وهذه مأساة مقارنة بعدد السكان من المحيط إلى الخليج. محفوظ ويضيف رشيد، ان واقع المبدع العربي مرتبط بالوظيفة ويأتي الإبداع في آخر المطاف، مشيرا إلى أن البعض يضع فيما مضى من أيام تبعات الغياب على الرقابة، خاصة في بعض الدول فكيف يتعامل الشاعر والروائي مع واقع مغاير للمألوف وهذا ماكان في العراق وسوريا مستثنيا حالات استطاع المبدع أن يطرح أفكاره مثل محمد الماغوط وسعدالله ونوس وممدوح عدوان. كما اعتبر رشيد أن الأسئلة حول ظاهرة هذا الغياب تتكرر، معتبرا أن المأساة تكمن في المتغيرات الحياتية وإيقاع الحياة السريع مع ظهور أفكار جديدة ونجوم أخرى في مجالات الإبداع المختلفة من شعر وغناء حتى في مجال الرواية، مشيرا إلى أنه عندما يحاول أحدهم العودة يصطدم بواقع مغاير للمألوف وهذا مما يظهر في كل المجالات الحياتية.. مردفا قوله: حتى وإن ربطنا هذه الظاهرة عند البعض بالحالة المزاجية إلا أن الخوف من الرفض من قبل الآخر يشكل حجر عثرة أمام عودته، أما من يعود ويلقى القبول فإن عودته لا تشكل لديه مشكلة لكنه ربما عاد لينزوي ويجتر ذكريات الماضي. الجواهري ويطرح رشيد العديد من الاستفسارات حول غياب المبدعين قائلا: ماذا نقول عن غياب مبدع سعودي أثرى الساحة الغنائية بالعديد من الألحان ويعني به الفنان الملحن سراج عمر أين هو الآن ؟ وأين الأعمال الخالدة للموسيقار الكويتي غنام الديكان والشعراء مبارك الحديبي من الكويت والدكتور مرزوق بشير وجاسم صفر من قطر..؟ وفي المقابل نجد أن شكسبير وكورينه وراسين وموليير وتشخيوف وتولستوي وطاغور وناظم حكمت ما زالوا يحصدون القراء والمتابعين لأعمالهم، أما نحن في عالمنا العربي فإننا نساهم في وأد مبدعينا، ولنا أن نتذكر ما قام به واحد من أعظم الكتاب في تاريخ الأدب العربي وأعني أبو حيان التوحيدي عندما أحرق كتبه وفي هذا رد على كل الأسئلة. الماغوط أما الشاعر المصري محمود شرف فقال: حينما نتحدث عن ابتعاد المبدع عن حقل الإبداع؛ عن الأسباب والدوافع التي تؤدي به للتوقف، لا نستطيع بشكل قاطع أن نحدد الأسباب الحقيقية لهذا، وسنظل نلقي بفرضيات، ولا أعتقد أن أغلبها سيكون صحيحا، لكن الأقرب للصحة من ضمن الأسباب الكثيرة التي ربما تقال في هذا المقام – ومن وجهة نظري الشخصية- هي افتقاد المبدع في لحظة ما لقدرته على الاندهاش، والانبهار بما هو جديد ومستحدث، على الأقل من زاويته الشخصية، فالإبداع بشكل عام هو المختلف، المدهش، الغرائبي، غير النمطي، غير القابل للخضوع لمقاربات الذهن الاعتيادية. طاغور وعن العودة بعد مدة من الغياب يصف شرف هذا الغياب قائلا: الغياب حياة موازية لا يملك أدواتها وشروطها غير المبدع، هو فقط يملك أن يتنفس الأكسجين الخاص بها، كأنما هو يمتلك خياشيم خاصة بهذا العالم، فإذا ما افتقد هذه الآلية لن يحيا هناك طويلا، يغادر، إلى الأبد. كما يرى شرف أن الغياب ربما يكون استراحة محارب، يلقي فيها المبدع نظرة فاحصة على مسيرته، وهل تحقق له ما يريد أم لا ؟ يتوقف لفترة لالتقاط أنفاسه ثم المضي من جديد حتى يتجنب تكرارية نفسه، أو ربما توقف لفترة لعوامل نفسية سربت إليه الإحباط مثلا حيث لم يجد مردودا كان يأمله، مردفا قوله: نجد كثيرا ممن يتوقفون لفترات يقعون تحت تأثير هذا الإحساس القاسي، خاصة مع انصراف الدرس النقدي عن تناول إبداعاتهم بالعرض، في نفس الوقت الذي يجد فيه المبدع نفسه إزاء دراسات ومقالات كثيرة ومتعددة لأعمال أخرى لم يكن يتخيل أحد أنها ستلفت انتباه ناقد واحد، فما بالك بعشرات الكتابات النقدية التي تتصدى لمثل هذه الأعمال، مع ضعفها الشديد، لكن حسابات أخرى هي التي تحكم المشهد. هذا يؤدي بالبعض من المبدعين الحقيقيين –أحيانا - للانصراف والغياب يأسا منهم أن ما يقدمونه سيلقى صدى. ويختتم شرف حديثه عن هذا االغياب قائلا: ربما يحدث توقفا آخر إذا ما افتقد العائدون إلى آليات التواصل مع وسائل الإعلام والنقاد وبالجمهور، مشيرا إلى أنه لا يرى أن نضوب معين أفكار المبدع في مرحلة ما يمكن أن يكون سببا لتوقفه عن الإبداع بشكل المؤقت فهو يعتبر افتقار الكاتب للأفكار يكون لحظيا ومستمرا، أي أن الكاتب ليس ماكينة للكتابة فهو يتعرض طوال الوقت للتوقف والمعاودة لسبب مثل هذا لكنه إذا نضب معينه تماما لا يعود أبدا كمن اعتزل لأسباب قهرية. من جانب آخر وصفت الكاتبة شمس المؤيد الغياب المؤقت عن ميدان الإبداع بقولها: قد يكون رفضا وانشغالا وهموما والتزامات تطيح براحة المبدع النفسية فتشغله أو ترغمه على التوقف لفترة من الوقت وقد يكون توقف المبدع مرجعه شعوره بعدم التقدير من مجتمعه وعدم وجود الاهتمام بعمله. كما ترى المؤيد أن ضعف الموهبة يعد من أهم أسباب الغياب بعد تنفيذ عمل أو اثنين، موضحة أن هذا يحدث كثيرا في العالم العربي عامة، وأن مسألة عودة ضعيفي الموهبة واردة مادام المجتمع يتقبل الأعمال الأدبية الرديئة ويحتفي بها، متأسفة على حال الساحة الأدبية العربية التي تمتلئ بكتاب تراهم ضعيفي الموهبة خاصة في مجال الرواية حيث يجدون من يشجعهم على الاستمرار في إنتاج المزيد من الأعمال المتواضعة بسبب ضعف المستوى الثقافي العام لما يكتبون. ومضت المؤيد قائلة: قد يستمر ضعيف الموهبة لفترة من الوقت ثم يغيب حسب المزاج وقد لا يعودون، فالمبدع الحقيقي لا يتوقف إلا لأسباب قوية أو بسبب وصوله إلى مرحلة متقدمة من الشيخوخة وفقدان القدرات الذهنية مثلما حدث ذلك مع الأديب نجيب محفوظ والناقد محمد أمين من قبل مرورا بالروائي الشهير ماركيز وحاليا الكاتب الأمريكي فيليب روث.