العرب عامة، وأهل نجد خاصة، يكرهون كثرة الكلام، وفي القريب كنا نسمع كثيراً من المسنين يصرخون بالمسهب: - الزيدة!!.. أي هات الخلاصة.. وخلًّصنا!.. وكان خالد بن صفوان من بلغاء العرب، غير أنه يطيل، وخطب في قوم - وجاريةٌ له تسمع - فتشدق وأطال، وحين خلا بجاريته كان قد أعجبه ما قال، فسألها: - ما رأيك في كلامي؟ فقالت: - حسن لولا أنك تُرَدِّدُه! فأجاب: - أردده حتى يفهمه من لم يفهمه! قالت: - إلى أن يفهمه من يفهمه يكون قد ملّه من فهمه!! ذهِل خالد وقال: إنها لحكمة!! ولم يعد يطيل! والخُطَب الطويّلة مكروهة لدى كل الشعوب، لأن زبدة الكلام تتضح في الاختصار الذي لا يُمِلُّ ولا يُخَلّ، حتى إن قبيلةً أفريقية اشترطت على من يخطب أن يقف على ساق واحدة! وقد رددت الأجيال قول الفارس الشاعر راكان بن حثلين: ما قلّ دلّ وزبدة الهرج نيشان والهرج يكفي صامله عن كثيره ختم به موقف قومه: من زان حنّا له على الزين خلاّن وضوّ الى حرّك تزايد سعيره وكان راكان (قول وفعل) بل إن أفعاله تسبق أقواله، و(نيشان) وسام أو تاج.. أظنها لفظة تركية. ويقولون: إن الإيجاز هو أنف البلاغة الذي تعْطسُ منه! وإذا كان خير الكلام (ما قلّ ودلّ) فإن أسوأه (ما طال وأخلّ). قال أحمد الخطيب: خيرُ الكلام قليلٌ على الكثير دليلُ والعِيُّ معنيً قصيرٌ يحويه لفظٌ طويلُ مع أنه (لكل مقام مقال) فإن الإيجاز البليغ محمود في كل الأحوال، وخاصةً في الشعر الذي يفسده الحشو والهذر، فإنه يقوم على الإيحاء والرمز.. يقول ابن المعتز: إن ذا الشعر فيه ضيق نطاقٍ ليس مثل الكلام من شاءَ قالا يُكْتَفى فيه بالخفيِّ من الو حْيِ، ويحتال قائلوه اختيالا والمفردات الشعبية القديمة والأمثال تكتفي بالرمز وتعشق الاختصار.. لأن العربي ذكي.. ويعتمد على الحفظ لا الكتابة. ومن الأمثال الشعبية الموجزة: * (حليب حمارة!!) عن الأناني! * (ما عندك أحد!) عن الجاهل! * (خذ وخلّ) عن الكذب! * (قريعة ظل) عن المترف! ومثله (جويِّر ربيع!) * (أصقه كلاب) عن الإمعة. * (بخس طفس) عن الخسيس! ولّ يا الفقر ما ادعاني بنجد اتهنا كل يوم تحت نجم ولا سَرّ فيِّخ فإن عجز البين كان في التعبير عن شدة الفقر، لكن الصدر أكّد المعنى ونفى الكسف.. ومثله - فينا - قول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خِلتُ أن المنتأى عنك واسعُ فالصدر عبّر بإيجاز، والعجز أكّد المعنى. الاجهاد عدّى اللاّيمات عن الفتى والا رزاق ما تأتى الفتى بالغصايب لراشد الخلاوي، أي (لا يُلام المرء بعد اجتهاده) والتأكيد في عجز البيت ليس حشواً بل توضيحاً في محله.. وقريب منه قول أبي تمام: على المرءِ أن يسعى إلى الخير جَهْدَهُ وليس عليه أنْ تتِمَّ المطالبُ والكلام الشعبي الموجز مستوحى من البيئة، ويسير على العرف، فلفظة (بو) تدل على التفاهة أو انعدام الحضور (وجوده كعدمه) وقد تدل على (الخداع) حسب الموقف، وهي لفظة من البيئة، فحين تأتي الناقة بفصيل وتدر الحليب، فإن أهل نجد وقتها في جوع، يحتاجون اللحم والحليب، لهذا يذبحون الفصيل ليحققوا أمرين: عدم مشاركته لهم في حليب أمه، والظفر بلحمه. لكنهم يواجهون مشكلة هي أن الناقة المسكينة إذا فقدت وليدها غار حليبها وجف ضرعها حزناً عليه، هنا يحتفظون بجلد الفصيل بعد ذبحه، ويضعونه أمام الناقة على خشب، فتظنه وليدها وتشمه ويدر حليبها وهو المراد!! ومنه يشربون ويصنعون (الإقط) ويستخلصون (الزبدة)!