بعد العامل الوراثي تصطف عوامل كثيرة تصوغ شخصيتك وتشكل عقلك وتوجه طريقتك في التفكير.. خذ كمثال ترتيبك في الأسرة، وتاريخ ومكان ولادتك، والثقافة والدين الذي تعتنقه أسرتك، وتأثير مجتمعك والأقرباء حولك..(وقس على هذا كثيييير)!! وما يزيد الأمور تعقيدا - ويجعل كل انسان فريدا من نوعه - أنّ كل هذه العوامل تتقاطع مثل حقيبة أرقام سرية (ولكن من عشرة آلاف خانة) بحيث لم يظهر مثلك اثنان منذ بدء الخليقة.. وكي نبسط الأمور دعونا نأخذ كمثال (ترتيب الفرد في أسرته) وأثر ذلك في تكوين شخصيته.. وإذا أخذنا العبقرية كمثال يمكن تمييزه نكتشف أن العبقري يكون في الغالب طفلا بكرا أو وحيد أبويه. ويرى جالتون أن هذا الأمر لا يمكن إعادته إلى الصدفة لكبر النسبة في حياة المشاهير. وقد توصل غرتسل الى نتائج مشابهة؛ حيث أثبت أن 30% من العباقرة والمبدعين كانوا من الأبكار.. أيضاً هناك نسبة كبيرة من العباقرة والعصاميين كانوا من الأيتام أو الذين يغيب عنهم أحد الأبوين لفترة طويلة؛ فلينين وبيتهوفن ونيوتن وهتلر مثلا كانوا من الأيتام الذين عاشوا في رعاية أم متسلطة. ومن خلال دراسة كوكيس بالين ل300 من المشاهير المعروفين وجدت أن (22 % إلى 31 %) منهم كانوا من الأيتام . وفي عينة آل غرتسل السابقة كانت النسبة 18 % لمن فقدوا آباءهم و10 % لمن فقدوا أمهاتهم. كما وجد ايزشتات أن نسبة اليتم بين العباقرة لا تضاهيها إلا نسبة اليتم بين الجانحين والذين يعانون من ميول انتحارية! *أيضاً أتى معظم العباقرة من الطبقة المتوسطة.. ففي عينة آل غرتسل وجد أن 80 % من المشاهير جاءوا من تلك الطبقة في حين كانت النسبة في عينة بليندل 60% . وبوجه عام يميل العباقرة للظهور في الأسر الراقية أكثر من الأسر الفقيرة الأمر الذي يمكن اعادته إلى قدرة العوائل الراقية على (توفير) مناخ وظروف مناسبة لظهور أكثر من عبقري في محيطها الواسع! ورغم اعترافنا بأن بعض العوائل توفر لأبنائها ظروفا أفضل لتفتق العبقرية الا ان هذا الدور يتداخل أيضا مع عامل التأثر والاقتداء.. فمن الملاحظ مثلا أن معظم العباقرة احتكوا أو تعرفوا في سنواتهم الأولى على شخصيات عظيمة تأثروا بها حتى أصبح لكل شيخ أستاذ، ولكل عبقري قدوة، ولكل قائد نموذج.. والمتفحص لحياة معظم العباقرة يلاحظ وجود أب أو أخ أو جدّ أبدع في نفس المجال وخرج لدائرة الشهرة - وهي ظاهرة تنطبق أيضاً على الرياضيين والفنانين والعائلات السياسية.. كما أثبتت الدراسات الحديثة أن 68% من العظماء ترعرعوا في ظل مشاهير، وأن 63% منهم احتكوا أو تعرفوا بشكل مباشر على مشاهير أو مبدعين في سن مبكرة.. بل إن دراسة زاكرمان أثبتت أن نصف الحائزين على جائزة نوبل في العلوم تتلمذوا على أيدي علماء سبق لهم الحصول على نفس الجائزة !! .. ولكن لاحظ أن ظاهرة الاقتداء هذه (التي تراها أيضا حتى بين نجوم الكرة) استغلت أيضا كدليل على اهمية العامل الوراثي في العبقرية. وأول من لفت الانظار لهذا الدور هو فرنسيس جالتن في كتابه العبقرية الوراثية عام 1869 ؛ ففي رأيه أن العبقرية عرق وراثي يمكن أن يتناقل في أسر معينة. ولتدعيم رأيه المتعصب للدور الوراثي (وهو ذاته سليل عائلة معروفة بتفوقها العلمي حيث تشارلز دارون ابن عمته) أورد في كتابه قوائم لسلالات فذة في محاولة لإثبات أن العبقرية يمكن أن تتوارث خلال اجيال.. ومن الأمثلة التي أوردها أسرة الموسيقي الألماني يوهان باخ الذي أحصى في ذريته 167 موسيقيا مشهورا حتى أصبح اسم باخ في اللغة الألمانية مرادفاً للموهبة الموسيقية (بحيث يمكن أن تصف أحدهم بأنه باخ عظيم)!!