أيام قليلة فقط، تفصلنا عن بداية حلقات مسلسل الهجرة الجماعية التي ينتظرها بكل شوق وفرح المجتمع السعودي بكافة فئاته ومكوناته وشرائحه، باتجاه الشرق والغرب والشمال والجنوب، وفي كل الاتجاهات الاخرى، سواء أكانت هذه الهجرة، أو الهروب الجماعي باتجاه الداخل أم الخارج، فالمهم هو السفر مهما كلف الامر من مال وجهد، بعد طول عناء وتعب وملل هذا العام الطويل والحافل بالعمل وصعوباته. لا أنسى كلمات البروفيسور نادر شاه، الامريكي ذي الاصول الايرانية وهو يهمس لي قبل مدة في أحد البيوت الطينية في مدينة أشيقر التراثية والتي تبعد 200 كلم عن العاصمة الرياض: « لو تحررت سياحتكم من تلك النظرة التي يحملها البعض لحقيقة السياحة وأهميتها، لأصبحت السعودية احد أهم المحطات السياحية العربية والعالمية» يطل هذا الموسم السياحي في فترة حرجة وحساسة، يمر بها العالم العربي، بل والعالم بأسره لأسباب كثيرة جداً، لا مجال لذكرها هنا. الخيارات والجهات والمحطات، قليلة جداً، وتكاد تُعد على اصابع اليد الواحدة. فمنذ أن استقر "الربيع العربي" بكل تداعياته وتحولاته وأصدائه في الكثير من الاقطار العربية، ومنسوب السياحة العربية في تدن مستمر، حيث فقدت العديد من الدول العربية السياحية الكثير من جاذبيتها ووهجها، ولم تعد تُشكل الخيارات التي يبحث عنها السائح العربي، وأيضاً الأجنبي، فالسياحة والأمن توأمان لا غنى لأحدهما عن الآخر. والسائح السعودي، الذي كان في أوج مجده السياحي قبل سنوات، لم يعد السائح المدلل الذي تنتظره المطارات والفنادق والمنتجعات والمطاعم وبعض التفاصيل الاخرى التي لا مجال لذكرها. لا، السائح السعودي فقد الكثير من بريقه ومكانته وقدراته، وذلك لاسباب كثيرة، اهمها الوضع الاقتصادي الذي لم يعد يؤهله لاستعادة مجده السياحي السابق. السائح السعودي الآن، بين خيارين، أحلاهما مر. السياحة الداخلية بكل ما تتعرض له من صعوبات وتحديات، بل وشكوك واتهامات، أو السياحة الخارجية التي تتعرض هي الاخرى للكثير من الهواجس والمخاوف والأخطار. السياحة في، هذا البلد الكبير، والذي هو أشبه بقارة مترامية الاطراف ومتنوعة التضاريس ومتعددة الثقافات والعادات والألوان، قضية معقدة وشائكة، ومازالت تنتظر الحلحلة باتجاه توطين هذه الصناعة - السياحة - المهمة التي تعتمد عليها الدول الكبرى والمتقدمة. وبكل صدق وشفافية وتجرد، تُعتبر السعودية بما حباها الله من خيرات وثروات وطاقات، سواء أكانت مادية أم بشرية، من الدول التي تستحق أن تتصدر المشهد السياحي، ليس على الصعيد العربي فحسب، ولكن أيضاً على الصعيد العالمي. المعالم والملامح السياحية في هذا الوطن الرائع، لا حصر لها، فهناك البحار والجبال والأودية والصحارى والأجواء المناخية الرائعة والبيئات الزراعية المتنوعة والعادات والتقاليد والآثار الانسانية والمعمارية والأهازيج والألبسة التقليدية والمأكولات الشعبية والرقصات واللهجات والفلكلورات والكثير الكثير من المعالم والملامح السياحية التي تتمتع به هذه الارض الضاربة في جذور العمق التاريخي والإنساني، ويكفي حضورها الاسلامي القوي، كأرض مقدسة ضمت الحرمين الشريفين والكثير من صفحات التاريخ الاسلامي المشرق. رغم كل هذا الإرث الحضاري والإنساني الكبير، ورغم كل تلك المقومات والإمكانات السياحية الهائلة، إلا أن سياحتنا الداخلية، بكل أسف ما زالت حبيسة الخوف والشك والنظرة المريبة، وما زالت في مربعها الأول، مربع الحرام والرذيلة والمجون. سياحتنا الداخلية، بحاجة ماسة لأن تتخلص من هذه الصورة النمطية والسلبية التي يحاول تيار معين أن يطبعها على هذه الصناعة المهمة التي نحتاجها اليوم قبل أي وقت آخر، فيكفي كل تلك العقود الطويلة من الاهمال والتشكيك والخوف من هذا القطاع الحيوي المهم الذي يتسبب غيابه في تعطيل عجلة التنمية الوطنية الشاملة. شاركتُ في الكثير من الملتقيات والمهرجانات السياحية الوطنية، وزرت العديد من المناطق والمدن السعودية، والتقيت بالكثير من المتخصصين والمهتمين بالقطاع السياحي، سواء أكانوا السعوديين أم غيرهم من العرب والأجانب، وتأكدت من حقيقة لا مبالغة فيها، وهي أن السعودية بما تحويه من ثروات ومقومات مادية وبشرية وطبيعية وسياحية وحضارية وتاريخية، تستحق أن تكون في طليعة الدول السياحية، عربياً وعالمياً. فقط، الامر يحتاج الى رغبة حقيقية وإرادة فاعلة وعمل مدروس. لقد استطاعت بعض الدول العربية والأجنبية أن تجعل لها وجهة سياحية في خارطة السياحة العالمية، رغم فقرها المادي والحضاري والإنساني، ولكنها تعاملت مع السياحة، كونها صناعة لها مقوماتها وآلياتها وتفاصيلها المختلفة، ونجحت في ذلك، بينما فشلنا نحن، رغم كل ما نملكه من كل تلك القدرات والإمكانات والثروات. إذاً، الامر ليس معجزة كما يتصور البعض، ولكنه منظومة متكاملة من رؤى وأهداف واستراتيجيات وقدرات، لا أكثر ولا أقل. لقد أدركت بعض الدول الذكية اهمية السياحة، كصناعة تدر المليارات وتوفر الآلاف، بل مئات الآلاف من الوظائف، وتحرك عجلة الاقتصاد الوطني بشكل كبير جداً، ما يُسهم في تطور وازدهار تلك الدول. لقد وعت تلك الدول خطورة السياحة كقوة ناعمة لها تأثيراتها الكبيرة على مستقبلها السياسي والاقتصادي، لأنها - أي السياحة - تُعتبر أحد أهم مصادر الدخل التي تضخ المليارات في ميزانياتها. لا أنسى كلمات البروفيسور نادر شاه، الامريكي ذي الاصول الايرانية وهو يهمس لي قبل مدة في أحد البيوت الطينية في مدينة أشيقر التراثية والتي تبعد 200 كلم عن العاصمة الرياض: " لو تحررت سياحتكم من تلك النظرة التي يحملها البعض لحقيقة السياحة وأهميتها، لأصبحت السعودية احد أهم المحطات السياحية العربية والعالمية". انتهى كلام ذلك الخبير الثمانيني، ولكن معاناة سياحتنا الداخلية لم ولن تنتهي. ملف السياحة الداخلية، شائك ومعقد، ويتعرض لحملة شعواء من عدة جبهات، أخطرها على الاطلاق الممانعة الشرسة من قبل المتشددين من التيار الديني، باعتبار أن السياحة الداخلية بداية السقوط في براثن التغريب والرذيلة والانحلال. أكثر من 13 عاماً على الانطلاقة الحقيقية للهيئة العامة للسياحة والآثار بقيادة الانسان الرائع سلطان بن سلمان، إلا انها مازالت بكل أسف، لا تحظى بقناعة القائمين على هذا القطاع الحيوي المهم، فضلاً عن السائح السعودي الذي فضل الهروب شرقاً وغرباً، وفي كل الاتجاهات. للأسف الشديد، سياحتنا الداخلية لا تُمارس دورها الحقيقي كأحد اهم الروافد الاقتصادية والثقافية والحضارية التي تُسهم في صناعة تنمية وطنية شاملة ومستدامة. أما السياحة الخارجية، فهي كذلك لا تخلو من المشاكل والمنغصات والتحديات، خاصة في مثل هذه الفترة الحرجة التي يمر بها العالم، كل العالم. الخيارات محدودة جداً، خاصة على السائح السعودي الذي لم يعد السائح المدلل الذي يُنتظر قدومه بفارغ الصبر لما يتمتع به من امكانات مالية هائلة، تخوله احياناً لفعل الكثير من التصرفات والأخطاء. السائح السعودي الآن، لم يعد كذلك أبداً، فهو الآن يأتي في مراتب متأخرة بين السياح العرب. إذاً، السائح السعودي الآن، بين مطرقة السياحة الداخلية بكل ما تحويه من صعوبات وتحديات، وبين سندان السياحة الخارجية التي لا تخلو أيضاً من المخاطر والأزمات. ويبقى السؤال الذي ستجيب عنه الايام القليلة القادمة: أين يذهب السائح السعودي هذا الصيف؟