قبل أكثر من ألف عام سئل الشاعر العباسي الكبير أبو تمام.. لماذا تقول ما لا يفهم فقال ولماذا لا تفهم ما يقال؟! هذه الإجابة الإنكارية على هيئة سؤال آخر مردود على السائل تكشف لنا بوضوح تلك الرؤيا التي يفترضها الشاعر الجاد في رحلته للتواصل مع الوجود والتنقّل بين مساحات رؤياه وثقافته ونبوءاته، غير عابئٍ بظلاله التي يقف فيها المتعبون في ضحى القصائد، تلك الرؤيا هي ماجعلت من جدِّنا أبي تمام منكرًا للسؤال وباحثا عن إجابة أشمل وأعمق وأكثر تأثيرا، وبالتالي فعلى المتلقّي اللحاق به دائما إن رغب بالشعر أو الاكتفاء بكسله وخموله دون لوم ذلك الراحل في الحياة على أقلّ تقدير.. نتذاكر هذا الملمح النقدي التاريخي بين حين وآخر حينما يندّد بعض المتلقين اليوم بغموض هذا الشاعر أو ذاك، وجعل هذا الغموض مبرّرا للنفور من قصيدة اليوم والعزوف عنها لذلك، في حين ان عملية الغموض نسبيّة وعصرية.. فلم يعد شعر أبي تمام يعجزنا ولم تعد أدواته اللغوية والرؤيوية بعيدة عن متناولنا.. ولكم أن تتخيلوا أن مثل ذلك الشعر الذي لم يفهم في عصره على حد تعبير السائل أصبح اليوم مباشرا وتقليديّا.. وهي سنة تاريخية تتكرّر دائما فآباؤنا شعراء السبعينات والثمانينات كتبوا شعرا غامضا على حد تعبير عصرهم ودارت بسبب ذلك الغموض معارك نقدية طاحنة في حينها.. لكن شعرهم اليوم في متناول المتلقّي يستعيده بين حين وآخر غالبا لتسْفِيه من يتغرّب عنه في الغموض والتجلّي في عصرنا الحاضر.. والحقيقة الدامغة أن اللغة الشعرية في جلّ حقيقتها تظل لغة تعتمد اعتمادًا كبيرا على المجاز كواحد من أهم مصادرها التي تنمو وتتكاثر داخل مراحلها وعصورها.. فالمجاز يميت نفسه ليحيا من جديد بصورة أكثر تعقيدًا وتأويلا وهذا أمر بديهي ومنطقي يتناسب طرديا مع رؤيا العصور ومكوناتها وفضاءاتها وتقنياتها ونبوءاتها ولهذا سيظل الغموض لغة المستقبل دائما لأنه يبحث في المجاز عما يكون لا عما كان ويترك للمتلقي مساحة أشمل وأعمق للتأويل والتخريج والمفاعلة الإبداعية في التلقّي..لكن المفجع في الأمر بعد كل هذا هو ما يدّعيه بعض المتلقين من أن الشاعر لا يقول شيئا وإن قال فإنه لايفهم أو لا يعي ما يقول وهي نظرة خاملة وكسولة ومفجعة يردّدها كثير من المتلقين الكسولين في عصرنا الحاضر.. ليس هناك نص غامض وآخر واضح هناك نص مدهش.. والدهشة لا تكون مجانية أو مبتذلة أو مباشرة إنها عبارة عن رؤيا تفترضها اللغة، قد تكون في ظاهر الكلام أحيانا وقد تكون في باطنه..قد تطفو على السطر وقد تختبئ في محارات التراكيب اللغوية.. الأهم من كل ذلك إدراكنا المطلق بأن الشاعر يفتح النوافذ للمتلقي لكنه غير مطالبٍ بأن يمنحه عينيه ليرى ما يراه، يأخذه للغيم ولكن ليس عليه أن يبني له كوخًا هناك في قوس قزح، الشاعر المعاصر ليس واعظًا ولا مرشدًا ولا خطيبا ولا زعيما.. إنه فرد من أفراد المجتمع يتميز عن غيره بقدرته على إعادة صياغة الوجود جماليا من خلال تهويماته الخاصة في فضاءاته..زادُه معرفته وثقافته ورؤاه أو حتى عذاباته، وغايته بعد كل ذلك الغد.. الغد الذي يحتمله حين يتحمّل استكشافه واستشرافه معا..!