** (شكراً للأمكنة فهي التي تمنحنا الذكريات) أوسكار وايل. بإمكان أي شخص أن يزوّر ذاكرته، وأن يعبث بها، أن يعيد تشكيلها وفق حالته المزاجية، الشيء الوحيد الذي لا يستطع أن يفعله هو أن يزوّر ذاكرة الشوارع والأمكنة وأحاديث أرصفتها والمباني الأسمنتية، لا يستطع أن يرتبها وفق معاييره وأحاسيسه مهما حاول. وفي جولتي ل" شارع العطايف" التي قمت بها بكثير من الانتشاء وبكثير من الحزن، الشعور الذي لفني بقلنسوة الحنين وأشياء أخرى لا أعرفها، لفني بأحاديث العاشقين وقصائدهم، ببعض الأشياء المسكوت عنها والتي لا يمكن أن تجدهاإلا سراً على الورق، تحت إبهام الخيال والكتابة هروباً من المحاكمات وأناشيد الضمير الذي نحاول قتله كل يوم كي لا نترك له متسعاً من الوقت لقتلنا، أشياء لا يمكن أن تُقال علناً إلا في المقابر بين رفات الموتى البالية وأجسادهم كما هو حال أبطال رواية "شارع العطايف" لأن الموتى هم الغرباء عن الحياة وهم القادرون على الاحتفاظ وعن ظهر قلب بأسرار تلك الشخوص وممارستها الهاربة من سطوة العادات والتقاليد.. تلك الشخوص التي عاش بعضها مصافحاً وبحرارة للخيبة، للدهشة، للمغامرة، لأشياء أخرى لا يمكن وصفها إيجازاً، وحوادث لا يمكن للكلمات أن تبوح بها، لا يمكن للغة ولأي شيء أن يعيد تمريرها من جديد للأجيال القادمة والتي فقدت علاقتها الحميمة مع الأماكن ورائحتها؛لأنها أصبحت أسيرة الانتقالات السريعة والعلاقات المتعدية على جمادات هذا الكون ورائحة شوارعه. وفي شارع العطايف وعبر علاقة الرواية بهذا المكان الذي زرتهُ حاملاً فوق كتفي ذكرياته ومستحضراً أحداثه وتفاصيله وناظراً نحو الأسفل لأجد أثراً لأقدام "سعندي، ناصر، شنغافة"وعلاقتهم بهذا المكان التي تشكلت عبر علاقة لا تقبل إلا الاختباء الجميل، لأحاول الكشف عنهم أثناء الزيارة بالكثير من الحنين، وأبحث عن بعض العبارات التي ربما قد تركوها على حوائط الشوارع، وفي أزقته، كما فعل الفراعنة لتبقى حكاياتهم، حضوري في هذا الشارع يشبه تماماً ما قاله الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي: طرقت نوادي الأصحاب ، لم أعثر على صاحب! وعدت.. تدعني الأبواب، والبوّاب، والحاجب! يدحرجني امتداد طريق طريق مقفر شاحب، لآخر مقفر شاحب، تقوم على يديه قصور وكان الحائط العملاق يسحقني، ويخنقني وفي عيني... سؤال طاف يستجدي خيال صديق، تراب صديق ويصرخ.. إنّني وحدي ويا مصباح! مثلك ساهر وحدي! ** (لا يمكن للإنسان أن يكون شيئاً غير: البؤس) * بول ريكو. (ناصر): ذلك البطل الذي احتل الصفحات الأولى بموضوعٍ حليف التجربة البشرية منذ بداية نشوئها على سطح الأرض"المأساة والخطيئة"،الشاب الذي كان فاقداً لرمزية الأب والأم بل مُحطّماً بها ولها، البطل الذي كان ضريبة ارتباط براغماتي فاشل، ومع تحوله من أغنية إلى مجرم، من متصالح بالفطرة إلى ناقم اكتسب لغة القتل السري في محيطه الاجتماعي الذي لم يجد فيه من يؤمن بالكلمة، بل لا تؤمن بحقوقه كذات تستحق الحد الأدنى من الكرامة، لأنها لا تعرف لغة غير القتل،لأن ذاكرتها مطرقة ومسامير وأشياء حادة وزمن قديم يفيض بالكراهية! لقد جعلت الانفعالات من "ناصر" إنساناً لا يُصنِف الأفراد وفق خيارات وألوان متنوعة، وإنما وفق أحادية نابعة من تجربته وعلاقاته الاجتماعية التي جعلت منه شيئا غير مفهوم بالنسبة لنفسه، شيئا لا يعرف ماهيته والغاية من وجوده في دائرة لطالما بحث فيها عن ثقب منزوٍ يستطيع من خلاله الهروب نحو المعاني الجميلة التي سمع عنها كثيراً ولم يرها حتى مات. ** فريدريك دوغلاس:(أولئك الذين يقولون يجب أن نعزز الحرية وهم يجهلون العبودية.. هم أناس يسرقون الحصاد دون أن يحرثوا الأرض!) (شنغافة ): ثاني الخاسرين في رواية شارع العطايف،البطل الذي كان يطرح سؤال الحرية كلما تذكر ماضيه المرهون والمثقل بقيود الماضي، وكأنه يعيش بلا قيمة، بلا إرادة واختيار، إنسان مسلوب السؤال، إنسان لا يجيد سوى الأجوبة المباشرة والسريعة دون تفكير.. إلا أن معاني الحب والأحلام التي ربما وجدت لتنزع من الإنسان عدائيته لم تستطع أن تفلح معه، لأن الإنسان وعلى حد تعبير الفيلسوف "لاكان" وجد ليقتل الإنسان الآخر، ليدمره لا ليتركه مطمئناً ووديعاً كما تفعل الحيوانات ذات النوع المتشابه مع بعضها البعض. شارع العطايف ** ( كان جميلاً، كان الناس والأقرباء يقولون حين يرونه بأنه سيصبح وسيماً، لم يحدث هذا قط، كان نقمة إلهية وليست هبة كما كُنا نظن) كافكا* (سعندي) الذي يمثل هشاشة الإرادة، والانقياد لرغبات الأصدقاء التي عبرت حدود الجغرافيا من أجل الخطيئة،وأبواه اللذان توقعا أن يكون هبةً من الله خالية من العاهات الجسدية كما اعتادوا لكل مولودٍ يأتي لهم ويخرج من العدم إلى الوجود، إلا أن العاهات ليست فقط قرينة الجسد كما كانوا يظنون، إنّ لها حضورا أكثر وطأة على الروح وعلى النفس، يمارس الشر عليها ماهيته وضديته بأكبر قسوة..ليستجلب بسببه البطل المزيد من الإخفاقات والأماني المتكسرة، إضافة إلى الخاتمة غير المرضية سوى للظلام والأشياء التي وراءه والتي جعلته ينام نومه الأبدي مستفيقاً في عالم الجحيم. ** (ولد الإنسان حُراً إلا أنه يقيد بالمكان الذي عاش فيه في زمنٍ ما!) . جان روسو كل ما سبق حدث في شارع العطايف الشارع الذي قيد تفاصيل تاريخه الكاتب عبدالله بن بخيت ليعيد مركزيته في ذاكرته كشخص وفي ذاكرة المكان وينقله بفعل التدوين متخلياً عن أهميته من ناحية التعدد الطبقي ومعطيّاً المجال كله للكادحين والمعدمين والحارات التي يسكنون فيها والحكايات المختبئة خلف البيوت الطينية والتي لا زالت تقف بثبات منكسر رغم السنين التي مرت عليها ليصنع من هويتها ومضامينها القديمة روحاً للكتابة، ومصوراً من خلالها الحراك المكاني بين أفراد الرواية بوصفه فعلاً إنسانياً بالدرجة الأولى في شارع لا يتجاوز طوله 150 متراً، وناقلاً لأسماء الشوارع والأمكنة المجاورة له كما هي الآن دون تبديل أو تغيير رغم التغيرات والتحديث بكافة أصعدته وبرتمه السريع الذي حصل له.. خلال ما يقارب ستة عقود، تحول فيها الكثير من حكايات شارع العطايف.