قراءة في رواية (شارع العطايف) لعبدالله بن بخيت بمجرد أن تقع العين على غلاف رواية (شارع العطايف، ط1، 2009م)، لعبدالله بن بخيت، يتبادر إلى ذهن العارف بمدينة الرياض ذلك الشارع الشهير (شارع العطايف) الذي يعد الآن أحد شرايينها التجارية، وجزءا من حركة التجارة فيها، ولعله يقفز إلى الذهن تلك الأحياء القديمة، والشوارع الصغيرة، والبيوت المتقاربة، وهي التي كانت تشكل مدينة الرياض قديما، وتشكل الآن صورة التغير والتطور الديموغرافي الذي طالها، كما طال أحياءً ومدنا كثيرة من المدن السعودية، ومع ذلك فإنها مازالت تحتفظ بالكثير من أسمائها تلك، ولعلها مازالت تحتفظ أيضا ببقايا من البيوت والأزقة القديمة. وحينما تقرأ الرواية، تدخل في أحداثها المنقولة بتفاصيل دقيقة، سواء في العلاقات الاجتماعية القديمة التي كانت بين الناس خلال الفترة التي تتحدث عنها الرواية (الثمانينات الهجرية تقريبا) من تقارب في المجاورة السكنية، أو تكافل اجتماعي، وما ينشأ عن تلك العلاقات من خلافات ومنافسات واحتيالات، جاءت جميعها في نمطها القديم الذي عاشته المدينة. تتخذ رواية (شارع العطايف) تقنية رواية الشخصية، وهذه التقنية الروائية تجعل من شخصياتها بؤرة مركزية، فَتُوْلِيها عنايةً كبيرة، أكبر من الحدث. ولعل نجيب محفوظ وفتحي غانم من الروائيين الذين برعوا في النوع من الروايات، وبرع فيه من المتأخرين علاء الأسواني في روايتيه المتميزتين (عمارة يعقوبيان) و (شيكاغو). في رواية (شارع العطايف) تتشكل شخصيات الأبطال الرئيسة في ثلاثة أجزاء، ويتشكل الحدث من خلال عرضها لحياة أو جزء من حياة كل شخصية. فكانت هناك ثلاث شخصيات مركزية هي: ناصر، وشنغافة، وسعندي، جاءت حياتهم مفصلة على الأجزاء الثلاثة. (ناصر) ابن عجوز فقيرة، تركها أبو ناصر بعد أسابيع قليلة من زواجهما، ولم تره بعدها، فعاش كما يعيش اليتيم، وبقي يصارع بمفرده في مجتمع لم يرحمه، فاخترم رجولتَه اثنان حينما اغتصباه في المقبرة، فظل (ناصر) يطاردهما، دون أن يشعرا أو يشعر أحد في مجتمعه بشيء، وظل يطارد رجلا آخر تحرش بابنة عمه (نوف) وهي صغيرة، وكان يحبها حبا كبيرا منذ طفولته، بل لم يكتف بمن تحرش بها، فطارد شخصين تزوجاها، قبل أن تقترن به. وكل الذين طاردهم قتلهم، ما عدا (فطيس) وهو من أوائل من أفقده رجولته، حيث لم تتهيأ فرصة له لقتله. أما (شنغافة) فكان عبدا مملوكا، وأُعتق "دفاعة بلاء" بسبب مرض ألمّ بسيدته التي كانت تملكه ص (128). تفاجأ بعد عتقه بأن الحرية المطلقة كانت صدمة عنيفة عليه، خرج من ربق العبودية إلى عالم لم يدرِ ماذا يصنع فيه، ولكنّه استطاع أن يحظى بعلاقة حب مع أرملة وحيدة تدعى (معدية)، وما لبثت أن اختفت تماما من بيتها، وكان (شنغافة) يكثر من معاقرة الخمر، فقبض عليه، وأدين بقضية فقد حياته معها. والشخصية الثالثة سعد (سعندي) صديق (ناصر) ومُروِّج للخمر الذي يصنعه (شنغافة). انخرط في (شلة السويلمي) وهم مجموعة من معاقري الخمر، ولم يقبلوه معهم إلا بعد إلحاحه عليهم، ولمعرفته الدقيقة بجزيرة اللؤلؤ (البحرين) التي كانوا يتكبدون معرّة السفر إليها بين الفينة والأخرى. والد (سعندي) "محرج غنم" ولفشل الابن في الدراسة، وعدم رغبته في العمل مع والده حصل على وظيفة حكومية (فراش)، وفُصل من عمله بسبب إهماله، وعدم جدّيته في الحياة المهنية. الرواية بدأت بناصر، ثم شنغافة، وأخيرا سعندي، وكما تفعل رواية الشخصية، فهي تجعل الشخصيات تتقاطع في أزمنة وأمكنة وأحداث مختلفة، من زوايا مختلفة، وفي هذه الرواية قدرة عالية في السيطرة على عنصري الزمن والحدث، حيث يمكن للقارئ في نهاية الرواية تجميع أطرافها، وتأمل بنيانها. فرواية الشخصية شائكة جدا، ويسهل السقوط في فخاخها المتعددة، لصعوبة السيطرة على مجريات الأحداث في أزمنتها المختلفة من زوايا متعددة. والزمن في هذه الرواية، كما يكون عادة في رواية الشخصية، غير مستقر، متغير، غير ثابت، فيما بين زمن القصة الأساسي، وأزمان أخرى، يخرج بها السارد من حدث إلى آخر دون أن يفقد الكاتب الزمن الأصلي (زمن القصة). وهذا يعود لأن لكل شخصية زمنا خاصا، يشترك، بالضرورة، مع أزمان الشخصيتين الأخريين، ويشترك في الأحداث مع بقية شخصيات الرواية، ولذلك فإن الزمن ما يلبث أن يعود إلى دورته الأساسية بعد أن يتشظى إلى أزمنة مختلفة عند كل شخصية. فمثلا تبدأ قصة (ناصر) من بعد وفاة أمه مباشرة، حينما حضر النسوة إلى بيتها لتجهيزها للقبر، وناصر في نفس البيت "اجتذبته أصوات النساء المتزايدة فنهض من فراشه وتحرك على رؤوس أصابعه بحذر، وأطلّ من فرجة بين شرفتين على بطن البيت" ص (7) لكنّ القطع المستمر للأحداث يغير في مسار الزمن، فيعود الزمن إلى الماضي، في إشارة إلى بداية عمل (ناصر) في ورشة له "كان قد استأجر غرفة اقتطعها الدويرع من بيته وأجرها له لتكون ورشة إصلاح السياكل، وتبتله بحب ابنة عمه، جعلاه يتجاهل ميله إلى النساء". ص (8) مراوحة الزمن التي نجدها في الرواية، جعلت الرواية تتجه إلى الداخل، حتى أصبح الحدث مجرد تجسيد للدوافع الداخلية، فتبدأ الدوافع تتفاعل فيما بينها بشكل بارز وجلي. فالدافع لمصادقة (ناصر) من مجموعته شذوذُهم، وتلبيته لرغباتهم الجسدية، والدافع لقتل (ناصر) لمن قتلهم، الانتقام والثأر كما مر، والدافع لرغبة (شنغافة) في الزواج من (معدية) وحدته، وغربته في مجتمع الأحرار. فلا تجد الأحداث يفضي بعضها إلى بعض، بقدر ما تجد النزعات والدوافع هي المسيطرة، والمتصارعة. ورغم أن الرواية تحكي قصة أبناء حي صغير (حلة ابن بخيت) إلا أنها استطاعت أن تخرج إلى فضاءات متعددة، كالأسواق آنذاك، ومدينة الخُبر، والبحرين. واستطاعت أن تغوص في أعماق شخصياتها، فكشفت بذلك كثيرا من مكنونات الشخصيات، مع تعدد أنماط الشخصيات فيها، واختلاف نوازعها، بين الخير والشر، والحب والبغض، والتصالح والانتقام. ورغم أن عنوانها يشي بأنها رواية للمكان، فقد نجحت في تتبع نمو شخصياتها، ومع ذلك تمكَّنَتْ أيضا من رصد تأثير الأمكنة المختلفة على الأحداث والشخصيات، فسمحت بأن يعيش القارئ فضاءات الأمكنة التي وردت في الرواية، كما لو كان أحد شخصيات الرواية، كما في المستشفى، والنادي، والمسجد، والسوق، والسجن، والمخفر. تسيطر على الرواية ما يسمى (بالشخصية المعنوية) وهذه الشخصية ليس بالضرورة أن تكون شخصية تقابل معنى الفرد في المجتمع، بل يمكن أن تكون معنى من المعاني المجردة، كفكرة الخوف، والموت، والحب، والبغض. وهنا كانت السيطرة لفكرة الفقد، حتى بات الفقد شخصية من شخصيات الرواية، اصطبغت كل أحداثها، وأجواؤها بهذه الفكرة. فبدأت الرواية بفقد (ناصر) لأمه، ثم يتوقف الزمن الحاضر لنعرف أنه فقد رجولته، وفقد أباه لكونه أبا مهملا اكتفى بأن وضع في يد زوجه قبل أن يتركها مبلغا زهيدا من المال، ثم غادر، كما فقد (ناصر) ابنة عمه (نوف) أكثر من مرّة حينما زُفت إلى شخصين غيره، قبل أن يتزوجها. أما (شنغافة) فيبدأ الجزء الخاص به، من الرواية، بالسجن، والسجن بلا شك من أظهر الأشكال في فقد الحرية، وبعد أن خرج من العبودية فقد معنى العيش، فكانت الحياة عنده تعادل الضياع، إذ لم يعتد على حرية كهذه، لا سيد يؤطر وجوده وقد اعتاد على هذا النمط من الحياة، ولا زوج تملأ حياته، ولا أبناء يشغلونه ويهتمّ لهم، ولا أقارب يتبادل معهم أبسط أشكال التعامل القرابي "ترى أي قدر قذف به في هذه الحرية الموحشة؟ كافأه الله بحرية أشد قسوة من العبودية. يكفيه منها الشعور بالوحدة" ص (173) ثم حين تعرّف على (معدية) ورغب في الاقتران بها، تَفْجَأُه مغادرتُها بيتها، وتختفي تماما من مجتمعه. وحين يشعر بنسائم السعادة تثلج صدره لا تلبث أن تتحطم بالشكوك والمخاوف. وأخيرا يضبط وهو مخمور، فيدان بقضية يفقد فيها حياته. وسعد أو (سعندي) يبدأ الجزء الخاص به من المستشفى، حينما كان منوما نتيجة طعنة في رقبته، يدخل المدرسة ثم لا يلبث أن يفقد الجلوس إلى مقاعدها، وفقد عمله. وأخوه فاقد للأهلية لإعاقته. وأمه من قبل فقدت الكثير من الأولاد. وكان لديه شعور ملازم بأنه سيقبض عليه في أي وقت "كان يعرف أن النواب يتربصون ببيت السويمي، وسوف يقبضون عليهم" ص (270). أما بقية شخصيات الرواية فكل منها فقد شيئا واحدا على الأقل، فحينما ينتقم (ناصر) لشرفه، وشرف ابنة عمه، بالقتل والتمثيل، يكون (ابن سويلم) قد فقد حياته في صورة عنيفة. كما يفقد (ابن وصار) حياته في المسجد، بل وأصابعه التي قطعها له ناصر، لأنه لمس عَجيزة (نوف) ابنة عمه، حينما كانت صغيرة. وأخت (سعندي) تفقد الأمل في حياة بسيطة "كانت قد فقدت الأمل في الحصول على الشامبو الذي تسمع به، كما فقدت الأمل في كثير من متطلبات الحياة الإنسانية الطبيعية". ص (273) و(سعندي) وإخوته مهددون بفقد بيتهم في أي لحظة يفقدون أبويهم "تذكر أن البيت مهدد بالبيع إذا مات والداه فجأة" ص (274) أما أخوه (سعيد) ففاقد لبصره وعقله، نتيجة مرضه وتخلفه العقلي. كانت نتيجة أجواء الفقد تلك أن سيطر الخوف على نفسيات الشخصيات، فكل شخصية باتت تخشى أمرا ما، وتخشى ما يخبئه لها المستقبل، حتى في لحظات السعادة "تمدد على المركاز. شعر بسعادة غامرة. خرج من ورطتين بضربة حظ واحدة. لكن خياله الملوث بالتعاسة لم يتقبل طغيان السعادة الطارئ، فأخذ يقلصها بالشكوك والشعور بالوحدة. تذكر أنه يعيش على حافة العالم. في أية لحظة قد يقع في الهاوية" ص (172، 173). لكنّ الخوف في الرواية حينما تتسع دائرته ليسم أسماء الأمكنة والشخصيات تصبح له دلالة ثانية، فتصبح حالة الخوف كالعدوى، فطالت الكاتب نفسه. فهذه الرواية صدرت طبعتها الأولى عام 2009م، أي في الفترة التي مهدت لها روايات سعودية كثيرة، من حيث الموضوعات الكاشفة لخفايا المجتمع، فرواية (شقة الحرية) على سبيل المثال لغازي القصيبي (يرحمه الله) تحدثت عن التوجهات الإيديولوجية، الفكرية، والسياسية، فكانت _ كما وصفها الناقد حسين بافقيه في مقالة له في صحيفة الرياض _ "سجلا للأفكار السياسية والمصطلحات الفكرية التي رانت على فكر أبطال الرواية، وتسلطت على ألسنتهم، فأصبحوا نهباً للتيارات المتضاربة، ك«البعث»؛ و«القومية العربية»؛ و«حركة الإخوان المسلمين»؛ و«اليسار»، واختلطت السياسة بالجنس". ورواية (أطياف الأزقة المهجورة) لتركي الحمد لم تبتعد كثيرا عن موضوع (شقة الحرية)، إذ طرح فيها الحمد الفكر والسياسة والجنس، وكان بطل الرواية (هشام العابر) يحكي قصصه الجنسية ، كما في الجزء الثاني منها (الشميسي) دون مواربة. وإذا انتقلنا إلى الروايات الحديثة نسبيا، وهي من الروايات التي أحدثت ضجيجا كبيرا، رواية (بنات الرياض)، ط1 (2005م)، لرجاء الصانع، نجدها تتحدث بجرأة عن الخمور، والفتيات وعلاقاتهن المحرمة في الأسرة السعودية، بل عند كثير من الأسر العربية أيضا، وكانت جريئة حينما أطلقت عليها اسم (بنات الرياض)، أما رواية (الآخرون) ط1 (2006م) لصبا الحرز، فإنها تطرقت لحالات جنسية توازي ما طرحه عبد الله بن بخيت في روايته هذه، فكلا الروايتين تشتركان في الانحراف الجنسي، فإذا كانت رواية (شارع العطايف) طرحت موضوع الانحراف الجنسي عند الذكور، فإن رواية (الآخرون) طرحت الموضوع ذاته عند الإناث. كل تلك الروايات وغيرها أيضا تحدثت بالأسماء الصريحة للأماكن التي احتضنت الأحداث الروائية، ولم تلتفت إلى ما ستسفر عنه القراءات المختلفة، والآراء التي ستصدر فيها، من التيارات المتضاربة. في حين نجد رواية (شارع العطايف) تختبئ خلف الأسماء المورّاة، وتستعير لها أسماء تشير دون أن تصرح، وتقارِب في الحروف دون أن تقترب من الأسماء الحقيقية للأمكنة، فمثلا:ترد مدينة الرياض باسم (الرويض)، والشميسي، الحي الشهير بالرياض، والمستشفى القديم في منطقة الشميسي، يردان في الرواية باسم (المشمسي)، والخبر يرد باسم (الخويبر)، والحسا باسم (الحسيوي)، والدمام باسم (الديومان)، والسداد في الطائف أطلق عليه اسم (السواد بالطويف)، وشارع الخزان في الرياض (شارع المخزان)، وحي المربع، يصبح (حي المرابيع)، وسجن الملز يورده باسم (المستلز). أما الناديان الأشهران بالرياض وهما نادي (النصر) ونادي (الهلال) فيردان في الرواية بنادي (الفوز) ونادي (الشمس). بل إن شبح الخوف جعل الكاتب يخشى الأسماء الأخرى البعيدة، كالبحرين، فأسماها (جزيرة اللؤلؤ) واستثنى منها (قرندول) وهو أحد أحياء (المحرق). أما الأسماء التي فيها مندوحة من الخوف فقد وجد فيها الكاتب ملاذا، فأطلق على المدارس صفة الأرقام، كما كان يطلق عليها من قبل، وكما يطلق الآن على مدارس البنات، فنجد في الرواية (المدرسة الثانية عشرة الابتدائية)، و(المتوسطة الأولى)، في حين أن الأسماء، وخاصة الألقاب، لم ترد محرفة، ولم أجد محرفا منها سوى (الدوسر)، ولعل الكاتب وجد في الألقاب بأسماء الأسر، مفرا ومهربا من التحوير الذي عمد إليه في أسماء الأمكنة. رواية (شارع العطايف) صدرت خلال الفترة التي باحت الروايات بأكثر من ذلك بكثير، ولعل السبب في هذا التحوير نظرة كاتبها إلى الرواية، فمن المعلوم أن الرواية فن تخييلي، ومع أنها تتخذ من منطق الحياة منطقا لها، وتعيش وفق قوانينها، إلا أنها تضرب في الخيال بسهم عالٍ. ومهما كانت الرواية واقعية، أو حتى من السير الذاتية التي تنهل من الواقع فعلا، وتتماسّ معه في نقاط كثيرة، فإنها مازالت من الفنون التخييلية، ولا تعد وثيقة تاريخية بالمعنى الحقيقي للوثيقة. ولعل ما جعل كاتب (شارع العطايف) يجنح إلى تغيير تلك الأسماء، رؤيته إلى الرواية بوصفها وثيقة تاريخية، فخشي من مغبة ما فيها من أحداث وأسماء، وشخصيات. ولو افترضنا حقيقة الأحداث التي وقعت فيها، فإن الإشارة التي على غلافها، (رواية)، تخرجها من الواقع إلى الخيال، وتصبح فنا مهما كانت حقيقة ما فيها. ورغم محاولات الرواية في إظهار الشجاعة، بطَرْقِها كثيرا من المحرمات (التابو) إلا أنها أظهرت خوفا بيّنًا، حينما لجأ مؤلفها إلى التواري خلف الأسماء المحورة، فهو لم يأت بأسماء بعيدة عن الأسماء الحقيقية، بل أراد أن يشير دون أن يؤكد، وأن يلمح دون أن يصرح، في عصر بات لا يقبل سوى التصريح من كثير من الروائيين، مهما كانت مغبة ذلك التصريح. الفن الروائي فن مخاتل، ويجدر بالروائي أن يستثمر هذه السمة فيه، فهو يحايث الواقع ويمتح منه، إذ إن أي رواية تبني عالمها الخيالي وفق العالم الفعلي والواقعي، وذلك ببساطة كي يمكن فهمها وقراءتها، فالشخصيات لدى الروائي عادة ما تكون مستمدة من الوسط الذي يعرفه، سواء أكانت تلك المعرفة مباشرة أم غير مباشرة، أي أنه يمكن أن يعرف شخصيات لها نفس أو بعض صفات شخصياته، أو أنه من خلال ثقافته تعرّف على أنماط تلك الشخصيات. والرواية فن، كأي فن آخر، يخرج بفنيته إلى فضاءات الحرية الإبداعية التي تجعل من الفنان حُرًا، ينشئ عالم موضوعه الخاص به، ويدوِّن التاريخ الحقيقي. هناك فرق بين تناول المؤرخين والروائيين لوقائع الحياة، ولوجود علاقة عضوية بين التاريخ الروائي والتاريخ الثقافي العربي، أمكن بحسب ما ذهب إليه فيصل دراج في كتابه الرواية وتأويل التأريخ مواجهة براغماتية المؤرخ، حتى لو كان لامعاً مثل قسطنطين زريق، بموضوعية العمل الروائي الذي يكتبه جمال الغيطاني ومحمود الورداني ورضوى عاشور وغيرهم. وما يميز الروائي عن المؤرخ، أن الروائي بإمكانه أن يفتش في الأماكن التي لا يستطيع المؤرخ أن يفتّش فيها، وأن يدوِّن ويقول بحريته التي وفّرها له الفن ما لا يستطيع المؤرخ أن يقوله أو يدونه، بشروطه التي يمكن أن تخلَّ بالحقيقة.